مقالات

من سيساعد الغلابة على التخلص من وضعية الكاتش ٢٢

كتب الدكتور طلال خواجة في  جريدة النهار مقالة بعنوان”من سيساعد الغلابة على التخلص من وضعية الكاتش ٢٢”

لا يكاد يمر يوم دون ان التقي فيه بزملاء سابقين في ممر المتقاعدين الذي يدلف من خلاله يوميا العشرات من اساتذة الجامعة اللبنانية, وقد طووا عقودا عديدة من حيواتهم، كانوا خلالها يمارسون المهنة الاكاديمية بالتفاعل مع الاجيال الشبابية. وهذ ما كان يحافظ على نضارتهم و يضفي عليهم الشعور بالشباب الدائم. فالمهنة الاكاديمية ليست مهنة عادية، والبعض اطلق عليها صفة المهمة الاكاديمية، ذلك انها تفترض ان صاحبها يمتلك بعض مفاتيح البحث والاكتشاف والتحفيز وربما الابداع في مجال علمي او ادبي او حقوقي او غير ذلك من المجالات والبحور الاكاديمية.

انها مهمة اعادة تثبيت اوتاد في وطن الارز بعد

ان بالغ قادة القبائل اللبنانية ورعاتهم في قبع اوتاد الدولة وتحويلها اشلاء. وهي المهمة التي اعادت الوصل مع الكثير من المنتشرين الاكاديميين في اهم الجامعات العالمية للمساهمة في اعادة بعث وتعزيز الخصوصية الاكاديمية اللبنانية، خصوصا بعد ان صمتت المدافع وعقد اتفاق الطائف وانطلقت ورشة الامل المدمى من بين الحطام والاشواك.

ولكم كان واعدا ان تتشكل اكاديمية لبنانية للعلوم من ابرز الباحثات والباحثين وان تعقد مؤتمرات وورش علمية في لبنان، شارك فيها باندفاع الراحل مايكل عطية احد ابرز علماء، الرياضيات، ان لم يكن الابرز في القرن العشرين، وعالم الفضاء شارل عشي احد قادة الناسا البارزين.

ومع ان الاكاديميين عادة ما يكونون ممن فضل متعة العمل الاكاديمي على الجاه وجمع الثروة، الا انه اصبح كودا عالميا بان الاستاذ الجامعي يجب ان يعيش هو وعائلته بكرامة كي يقوم بالمهمة التي تتطلب استقرارا اجتماعيا وحرما جامعية مناسبا وحالة ذهنية هادئة.

في أحد اللقاءات بين رئيس الحكومة والهيئة التنفيذية لرابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، قال رئيس الهيئة ممازحا ان جاره بائع الموز “بيعمل مصاري اكثر منه” فقال له رئيس الحكومة لماذا لم تختر مهنة بائع الموز اذن. هذا الرئيس كان يقدر خصوصية الاستاذ الجامعي وكان مرنا في التعاطي مع المواجهة الديمقراطية الكبيرة التي خاضها الاساتذة بوجه السلطة في التسعينيات تحت عنوان الحفاظ على كرامة الاستاذ والجامعة اللبنانية واهلها عموما، خصوصا بعد ان تشظت وتفككت تحت مطارق الميليشيات في جولات الحروب المختلفة.

وقد اتسمت نتائح هذه المواجهة بالايجابية وعودة بعض الروح للجامعة اللبنانية، إذ ادت لتحسين الرواتب وانشاء صندوق التعاضد الذي شكل شبكة امان للاساتذة بعد طول معاناة وخسارة زملاء باوج عطائهم، كما استكملت مدينة رفيق الحريري الجامعية في الحدث بعد ان حمل مشروعها حسن مشرفيه ورفاقه بادئا بكلية العلوم، وتبعها لاحقا انشاء بعض الكليات في المون ميشال في طرابلس، وقد صعدت على اكتاف الاكاديميين والنقابيين والناشطين الشماليين الحالمين بمدينة جامعية تليق بالشمال الصابر على القهر والتهميش.

ورغم عودة العمل بالمجالس الاكاديمية والتمثيلية، الا ان استقلالية الجامعة لم تستعد بالكامل وبقيت خاضعة الى حد كبير للتدخلات السياسة، بما فيها التدخلات السورية، كما طغت عليها المحاصصة والزبائنية، واخترقتها الانقسامات الفئوية والمذهبية، مما رفع التحدي امام الناشطين الاكاديميين لاعادة اللحمة الثقافية والاجتماعية ضمن سقف التنوع والتعدد والحريات.

في ممر عزمي/مار مارون-منلا/ رياض الصلح والذي يربط شوارع وسط الفيحاء ببعضها البعض، كما يربط بعضها بالبوليفار ونيو تريبولي، ما زلت تلتقي بعشرات الاساتذة المتقاعدين، بعضهم يتجه نحو مقاه تبدو بعضها وكانها تجمدت كلوحة وسريالية في زمن مضى، وبعضهم يكتفي بممارسة ميني رياضة مشي او كزدورة في شوارع تجارية وتراثية يغلب عليها حيوية الذكريات،حين كانت المدينة تسير على وقع تراثي وحداثي، شكل خلطة واعدة وجاذبة في بلد يتأرجح بين نعمة ولعنة الموقع، وفي منطقة تقع على اصعب مفارق التاريخ والجغرافيا والامبراطوريات، قديمها وجديدها.

وبالنظر لتردي الحالة الاجتماعية للاساتذة، حالهم كحال الالاف من اترابهم في قطاعات التعليم الاخرى وغيرها من ملاذات الطبقة الوسطى المنهارة، بالتزامن مع تسارع الازمات والانهيارات، وخصوصا الانهيارات النقدية والمالية والمصرفية، فقد تحول هذا الممر ومتفرعاته الى حيز للشكوى والتساؤل عن المصير، وكان فد شكل ممرا للتظاهرات الشبابية خلال الانتفاضة التشرينية العارمة. علما ان الجوار يحتضن معظم فروع البنوك التي تحول خارج ما ابقي منها مؤخرا، مراكز انتظار وتعذيب، بعد ان رحلت الترتيبات الامنية الجديدة حشود المودعين للخارج و نحو مكنات النقود في اعقاب اقتحامات البنوك.

لن استرسل في وصف القلق والانقباض الظاهر على وجوه جميع من ألقاهم من الزملاء والاصدقاء والناس العاديين، وطبيعي ان تحزنك ملامح الاحباط واليأس وصولا للاذعان احيانا، علما ان معظمهم واولادهم من بعدهم شاركوا في انتفاضتي ١٤ اذار و١٧ تشرين اللتين شكلتا قوة دفع للأمل ببناء دولة سيدة حرة باستقلال كامل، طبيعية ومزدهرة، قبل ان يتراجع هذا الامل تباعا في الانتفاضتين على وقع الاغتيالات والبطش والغزوات القبائلية التي تعرض لها المنتفضون، خصوصا في العاصمة بيروت رمز وحدة البلد وقلب العرب الثقافي، و على وقع التسويات والاوهام السلطوية التي انتجتها. وبعض غزوات مجموعات الموتو والاستعراضات السوداء تشبه غزوات الجمال على المنتفضين في ميدان التحرير في القاهرة واستعراضات التويوتا الداعشيه في الرقة، كما وصفحها ببراعة تيم ماكنتوش، مستحضرا ابن خلدون في كتابه “العرب: ثلاث الاف سنة من تاريخ الامبراطوريات والقبائل والشعوب”.

وبالكاد تلقي السلام فتنهمر عليك اسئلة الزملاء، بدءا بمصير البنوك والودائع وانهيار القدرة الشرائية، مرورا بالغذاء والبنزين والمياه والكهرباء والمولدات وصولا للدواء والاستشفاء ومصير صندوق التعاضد الذي شكل درة التاج في الامارة الاكاديمية، ثم يطالبونك بالتحرك وايجاد الاجوبة، وكأن الزمن عاد الى الوراء حين شكل اساتذة الجامعة عصبا رئيسيا في ابتداع هيئة التنسيق النقابية التي شكلت رافعة التحركات المطلبية في الجمهورية الثانية والنظام الامني السوري اللبناني الذي عمل على قمع واحتواء الحركة النقابية والحركة الديمقراطية عموما.

لا يشكل هذا المشهد المؤثر سوى عينة من المشاهد الدرامية في مسرحية الكوميديا السوداء التي تلعب حية على المسرح اللبناني، وبعض فصولها الهزلية يتابعها اللبنانيون في مشاهد انتخاب رئيس الجمهورية والتي يدير المشاركين فيها بسخرية احيانا اعتق رئيس برلمان على كوكب الارض.

وبينما يجبر اللبنانيون على مشاهدة كرنفال الرئاسة الممل بعد ان تحولوا الى غلابة وعلقوا في وضعية الكاتش ٢٢، هاهم يحرمون من مشاهدة كرنفال المونديال الممتع، بسبب حفنة من الدولارات، نهبت مافيات السلطة و فجار التجار الاف اضعافها، تحت بصر فائض قوة الميليشيا التي ساهمت ايضا في تغطية وحماية الفساد والهدر والتهرب الجمركي والضريبي والتوقف عن دفع ديون الدولة، فضلا عن ادارة ورعاية التهريب عبر المرافق والحدود مما ادى الى تبديد مليارات الدولارات.

ورغم اننا نميز بين ادوار ومواقف واداء الممثلين النواب في المسرحية الرئاسية، الا ان انخفاض السقف السيادي وارتباك الموقف من دور سلاح الحزب وراعيته واهتزاز الارضية الاجتماعية والنضالية لاطراف المعارضة البرلمانية، بما فيها المعارضة التغييرية، فضلا عن الشخصانية والسيندروم القبائلي، حول المسرحية الهزلية الى اداة تشويه وملهاة دستورية في خدمة اهداف الحزب المدجج وراعيته.

ومع انه ليس من المستحسن التكرار، الا انه لا بد من التأكيد على ضرورة اعادة الوصل مع الناس المقهورة والمعصورة والمحصورة والمهجورة، وعدم ترك متطلبات حياتهم اليومية فريسة للقرارات الارتجالية التي جرى ويجري تدبيجها من سلطة متشظية وفاسدة، متكيفة وخاضعة بالاجمال لفائض القوة.

للنقابات والهيئات والجمعيات ادوارا اكيدة في المواجهة المطلوبة، ولكنها بحاجة لتنسيق واحاطة من قوى واطراف المعارضة السياسية والبرلمانية والمدنية. فقد استنزف البلد والناس بالدعم الكاذب والناهب. و خضع المودعون العاديون لتعاميم مصرف لبنان وتطبيقاتها العشوائية من اصحاب المصارف الانانيين والمتغطرسين، كما اكتوى اللبنانيون عموما بجشع التجار وجماعة المولدات وحماتهم، وتحول البلد الى جحيم بيئي وصحي رغم انه يمتاز بالطبيعة والمناخ الاجمل والاكثر تنوعا في المنطقة. وها قد رحل تطبيق التعميم ١٥١ على سعر دولار ١٥٠٠٠ الى شباط مبدئيا! ولم ترحل مفاعيله الضرائبية والتضخمية بعد اقراره جمركيا، لان الهدف ليس اراحة المودعين بل الامعان في تنحيف وتجفيف ودائعهم، اذ كان يمكن رفع قيمة الدولار المصرفي وتخفيف السقف الشهري بما يحافظ على الكتلة النقدية ويخفف من الهيركات الاجرامي. حتى ان الحلول المؤقتة لتأمين الكهرباء الرسمية والتي تحصل مبارزتها بين اطراف السلطة، ستأتي على حساب الناس الموجوعين.

اولا : في تأمين المال لشراء الفيول من نفس الكيس المثقوب.

ثانيا: في التسعير والتشطير السيئين واختراع الاشتراك وبدل التأهيل الثقيل الغير قانوني، والذي سيبقى مفوترا حتى لو اصبحت التغذية صفرا.

ثالثا: في طريقة استيفاء الفواتير وابتداع حسابات فريش لبناني من اجل التوطين.

وهنا نسأل لماذا لا تجبى كفواتير الاتصالات وتدفع ايضا online او للشركة مباشرة او عبر شركات التحويل او عبر التوطين من حساب عادي جاري؟ ونوفر من كلفة واشكالية وتخلف الجباية المباشرة، ولماذا لا يعمل على العدادات ذكية؟

نفهم ولا نحبذ او نؤيد ونتألم ايضا لتشتت و تعدد مقاربات المعارضات المختلفة في قضية السيادة، وفي مقاربة الاستحقاق الرئاسي وغيره من القضايا الدستورية، و في مقاربة مشاريع خطط التعافي الوهمية والكابيتال كونترول وما الى ذلك من مهازل ومماطلة في الوقت الذي تجفف فيه الودائع ويستمر تهريب الدولار من قبل الاقوياء بطرق متعددة وربما قانونية. ومع ذلك فاننا نجدد المطالبة بتوسيع مساحات الحوار والتلاقي والتعاون بين جميع او اكثرية مكونات المعارضة وتشكيل هيئة تنسيق جدية واسعة التمثيل النقابي والمدني وحتى السياسي، على ان تضم اختصاصيين ناشطين في المال والاقتصاد والقانون .

وعلى هذه الهيئة ان تعمل على تضييق الفوارق في النظرة نحو القضايا الحياتية والمعيشية والبرامجية، وان تشكل قوة دفع وتحفيز وابتداع وسائل التنظيم والضغط النضالي الشعبي السلمي والديمقراطي، لمنع استفراد الشعب اللبناني الاعزل بالتعاميم والقرارات العشوائية والمجحفة، كما لوقف استنزاف وتدمير ما تبقى من طاقة عند بقايا الطبقة الوسطى من قبل سلطات غنائمية متواطئة وفاقدة الاحساس.

في الواقع ان ما نقترحه لا يشكل خيارا للمعارضة، خصوصا المعارضة التغييرية التي تتلهى بالمبادرات التوفيقية الواهمة فتتشظى وتفقد البوصلة والقاعدة التي حملتها الى البرلمان. ما نقترحه هو واجب على اطراف المعارضة الجدية في جميع الضفاف ومن جميع الالوان ان تقوم به، اذا ارادت ان تقود جماهيرها في معركة الدفاع عن الحرية والعيش الكريم، وهو ما يصب اساسا في المواجهة السلمية والطويلة النفس لتحرير البلد المخطوف والمرتهن والمحتل، وان احتلالا خاصا وبالواسطة. هكذا نبدأ بزرع الامل من جديد وبفك حصار الغلابة من الكاتش ٢٢ الخانق ليشاركوا في معركة استعادة سيادة وكرامة وحرية وازدهار البلد الجميل.

ويختم :هنا نسأل لماذا لا تجبى كفواتير الاتصالات وتدفع ايضا online او للشركة مباشرة او عبر شركات التحويل او عبر التوطين من حساب عادي جاري؟ ونوفر من كلفة واشكالية وتخلف الجباية المباشرة، ولماذا لا يعمل على وضع العدادات الذكية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى