مقالات

في الرواتب وفي صيرفة واخواتها : بين القهر والذل و الغضب”



كتب الدكتور طلال خواجة في صحيفة النهار تحت عنوان:” في الرواتب وفي صيرفة واخواتها : بين القهر والذل و الغضب”


“زملائي الكرام قبضت راتبي قبل قليل من بنك لبنان والمهجر على سعر صيرفة 38000 للدولار…
بادروا الى قبض رواتبكم الليلة قبل أن يصبح سعر الصيرفة 42000 غدا”.
هذا البوست وضع على احد غروبات قدامى اساتذة الجامعة اللبنانية الأربعاء في ١/٢/٢٠٢٣ الساعة ١٠.٣٠ مساء.
وقد وضعه احد اعضاء الهيئة الادارية لرابطة قدامى الاساتذة، بعد ان كان قد وضع قبله بيان مصرف لبنان الذي يعلن فيه رفع صيرفة ل٤٢٠٠٠، هو يدعو الزملاء المتقاعدين الى النزول ليلا في لبنان المظلم كي لا تسرق رواتبهم في اليوم التالي.
ومن الطبيعي ان ينتشر هذا البوست على كثير من غروبات الواتس اب، خصوصا عشرات غروبات اساتذة الجامعة اللبنانية التي تضم اكثر من خمسين فرعا موزعين في ارجاء الكوكب اللبناني. وللعلم فان رواتب الاساتذة قد تقلصت من معدل وسطي يقارب ٣٥٠٠$ قبل انفجار الازمة الى رقم ميكروسكوبي( دعك من خديعة اضافة مساعدة راتبين في الموازنة بدء من ١/١٠/٢٠٢٢: اضيف راتب واحد عمليا، لان المالية الغت المساعدة الاجتماعية التي كانت تعادل قيمة راتب تقريبا). علما ان حالة العوز واللا استقرار التي كانت تخنق عائلات مئات المتعاقدين تحولت مع مسلسل الانهيارات الى حالات بؤس وفقدان توازن اجتماعي ونفسي. واذا اضفنا الحالة المريعة التي وصل اليها صندوق تعاضد اساتذة الجامعة اللبنانية الذي شكل جوهرة تاج المكتسبات التي حققها حراك الاساتذة في تسعينيات القرن الماضي، لتفهمنا حجم القلق والقهر الذي يجعل من هذا البوست تراندنع على الغروبات ويتحول الى محور التعليقات والمتابعة. وللعلم فإن معدل خسارة راتب الشهر الماضي لمن قبض راتبه على صيرفة٣٨٠٠٠ بدل ٣١٢٠٠ بلغت ١٢٠$ وسطيا.
لن اقحم القراء في تفاصيل الحوارات والانفعالات التي تشهدها غروبات الاساتذة والتي تعكس شعور الحسرة والمرارة وحتى الاذلال احيانا، ولكن ساشير الى بوست وملاحظة تختصر الى حد كبير معادلة القهر والخداع وصولا للعبث الذي يعيشه اكاديميو الجامعة اللبنانية. فالجامعة اللبنانية التي ارتفعت على اكتاف المجتمع والتي عززها وطورها وحماها الاساتذة واهلها برموش العيون وفي اصعب الظروف، عادت لتترنح شبه عارية امام تداعيات الانهيارات المتلاحقة. في مساء الاول من شباط وضعت استاذة في احدى الكليات البوست التالي: ان ادارة احد البنوك ابلغتها ان رواتب الاساتذة ستحتسب على صيرفة ٣٨٠٠٠ وليس ٤٢٠٠٠، وهو ما عاد واكده مدير الفرع شخصيا لمراجعيه قبل التوجه إلى ِماكنات الذل. وبعد ساعات من الانتظار تفاجأ الاساتذة باحتساب رواتبهم على ٤٢٠٠٠. ومن نجح منهم في اعجوبة الاتصال بادارة البنك اتاه الجواب بان الحوالات وصلت في ٢ شباط!.
واذ طلب مصرف لبنان من كافة البنوك بدفع ما تبقى من رواتب على ٣٨٠٠٠ عاد القلق والارتباك والتساؤل من جديد.
اولا: هل ستلتزم جميع البنوك بالطلب
ثانيا: وماذا عن الذين قبضوا رواتبهم بخسارة اكثر من عشرة بالمائة، خصوصا من خدعوا او ضللوا من قبل ادارات بعض البنوك.
لم تطل هذه المرة حالة القلق، اذ ادت الضغوطات والاتصالات التي مورست على وقع الحراكات التي تشهدها بعض القطاعات، خصوصا التعليمية والتي تعكس حالات من الغضب الذي ينذر بمضاعفات غير محسوبة، الى صدور قرار واضح من مصرف لبنان باعتماد ٣٨٠٠٠ ودفع فروقات صيرفة للذين قبضوا رواتبهم على ٤٢٠٠٠. وهذا ما حصل بالفعل.
لن يقنعنا حاكم المصرف المركزي ولا رفاقه في السلطة بان ضميرهم قد استيقظ فجأة على انين واوجاع الموظفين والمستخدمين والاساتذة والمتقاعدين في القطاع العام.
اين كان هذا الضمير في الشهر الماضي حين قفز ارنب صيرفة الحاكم من ٣١٢٠٠ الى ٣٨٠٠٠ بالتزامن مع قبض الرواتب في اواخر السنة الماضية حيث تحولت البنوك الى سنتا كلوز لتوزيع هدايا صيرفة المسمومة، كان المستفيد الاكبر منها فعليا شبيحة الاقتصاد الاسود المحميين من ميليشيا الحزب الالهي ومافيا السلطة الفاسدة، كما تجار المال من اصحاب البنوك وصيارفة شرعيين وغير شرعيين واصحاب شركات ومحطات المحروقات والفجار من تجار المواد الغذائية وغير الغذائية وكارتيلات المولدات، فضلا عن تغذية اقتصاد النظام السوري المتعطش للدولار والذي سبق ان استفاد ايضا من مجزرة الدعم الكاذب والمتحور بصيرفة واخواتها.
وبينما كان جماعة المافيات يوزعون الشنط على عملائهم لتسجيلها على منصات البنوك، كان معظم الموظفين والمتقاعدين يخسرون اكثر من عشرين في المئة من رواتبهم وملحقاتها التي جمعت دفعة واحدة، ربما لتسهيل جزها، بفارق صيرفة( زميل لي في الجامعة قبض راتبه وبدلات النقل المجمعة مع اخر راتب في ٢٠٢٢ على صيرفة ٣٨٠٠٠ فخسر ٢٥٠$ فرق عن زميل له من نفس الرتبة والراتب والقسم كان قد سحب راتبه قبل يوم). اما المودعون الذين كانوا يستعملون التعميم ١٥١ معدلا ب١٦١ فقد حولت قفزة صيرفة الهيرالكات المرعب الذي يمارسونه طوعا وقهرا الى حلاقة على الناشف. وحتى تكتمل خديعة وهزال دولار تعميم ١٥١ على ١٥٠٠٠ والمتأخرة عن ١/١٠/٢٠٢٢ والتي يدفعون تداعياتها في الاسعار والضرائب والجمارك وكافة المعاملات الرسمية، فقد اراحهم سلامة من قلق فارق صيرفة، اذ اوقف استفادتهم منها، ربما ليسهل عليهم عملية حساب نهبهم عبر الهيرالكات القهري فتصبح اليوم حيث اكتب هذه الكلمات حوالي ٨٠٪، مما يجعل الفرق بين ٨٠٠٠ و١٥٠٠٠ للدولار في البنك( ارفض تسمية لولار) متبخرا، ومع التضخم وارتفاع الاسعار يصبح الفارق سلبيا.
وفي الواقع فان هذه الاجراءت تزيد الشرخ بين المودعين والقطاع الخاص من جهة وموظفي القطاع العام من جهة أخرى، حيث يشعر المودعون بانهم والقطاع الخاص عموما يدعمون قطاعا عاما متضخما، قليل الانتاجية وينخره الفساد، خصوصا حين يستثنوا من صيرفة.
لطالما هدفت بدعة صيرفة لشراء الوقت بابطاء صعود الدولار والهاء الناس بالفتات واذلالهم امام البنوك. وها نحن نواجه انهيارا في قيمة الليرة يعادل خمسين بالمئة بمدة شهر واحد رغم قفزة صيرفة الاخيرة، دون ان يرف جفن لانصاف الالهة المتسلطين على البلاد والعباد. كل هذا العبث يزيد من افقار الطبقة الوسطى ويرفع من معدل البؤس والعوز في البلد لمستويات مرعبة، دعك من هلوسات منظري الممانعة الذين يدعون ان ٨٠٪ من اللبنانيين لا يتأثرون كثيرا بالواقع الانهياري،عن طريق تضخيمهم لبعض المظاهر اللبنانية المترافقة مع اقتصاد ٢٠٪. وفي الواقع فان هؤلاء ينظرون للتكيف تحت مقصلة الحزب المسلح. وللمفارقة، فقد اصبحوا من نزلاء القنوات والصحف السيادية.
لم تمرازمة الراتب السابق دون مواجهة، وقد استدعت هذه المواجهة اعادة خيوط التنسيق والتواصل بين النقابات والروابط وناشطي المجتمع المدني.
واذ نسجل ايجابية هذا الحراك، فاننا كنا نأمل ان يركز قادته على قدسية الراتب( والاجر طبعا في القطاع الخاص) ووحدته وارتباطه بكرامة صاحبه، لا ان يطيش الحراك في القضايا الكبيرة وامهات المعارك التي يمتهنها معارضو ومناضلو هذه الايام، غافلين عن الاوجاع الحياتية التفصيلية التي يئن منها غالبية اللبنانيين. والمفجع فان معظم القطاعات التي شكلت جاذبية هذا البلد الصغير بدأت تفرغ من اهم كادراتها، خصوصا قطاعات التعليم والاستشفاء، كما لم تسلم القطاعات السياحية التي يمكن ان تكون اكثر انتاجا وجاذبية وتنوعا، بعد ان اقتصرت تقريبا على سياحة الترفيه الذي بدأ بعض نشاطاته تنتشر في الخليج المزدهر والذي يشهد تحولات اجتماعة مثيرة. ومؤخرا بدأت الازمة تنهش في قطاع التكنولوجيا الناعمة الواعد، بسبب من تدهور وانهيار البنى التحتية، خصوصا الكهرباء والانترنت، فضلا عن ازمة القضاء التي تختصر الازمة السيادية، أم الأزمات.
قد يكون تفشيل سرقة جانب من راتب هذا الشهر مجرد بقعة ضو صغيرة في مجرة مظلمة، ومع ذلك فان توسيع هذه البقعة ممكن، ذلك أنها اخترقت حالة الاحباط التي باتت تختصر بكلمات من نوع منظومة وفالج لا تعالج والبلد رايح. واول ما يجب تحقيقه هو فرض استعادة فروقات الراتب السابق والبدء بمعركة اعادة تقويم الرواتب والاجور بعد اعتماد دولار رسمي ١٥٠٠٠، وهذا ما قد يوسع دائرة الامل بالقوة المختزنة. هذه القوة يمكن استحضارها لمواجهات متدرجة، متنوعة وطويلة النفس لسلطة القهر والفساد والخداع المستقوية بفائض القوة. فبربكم ايهما اسهل استعادة الاموال المنهوبة او استعادة الرواتب المسروقة بفارق صيرفة.
والمحزن ان لا أحد يواجه عمليا الخداع في مشاريع وخطط الكهرباء، اذ يراد ان ندفع الكلفة مرتين، مرة من ما تبقى من دولاراتنا المحجوزة في المركزي، ومرة بفواتير منفوخة ببدلات التأهيل، والأسوأ الفع كاش عوض تركيب عدادات ذكية والدفع ببطاقات الاموال المحجوزة! تخيلوا سلطة مافيوزية تشجع اقتصاد الكاش في عالم بات يتسابق في انشاء المدن الذكية.
وللعلم فاننا لن نحصل على نور الكهرباء الا نادرا، ونحن نيام، كما يحصل في طرابلس مدينة رئيس الحكومة، والذي اذكر انه اطلق مرة شركة نور للكهرباء في احتفال كبير واعدا بانارة الفيحاء وجوارها ٢٤ على ٢٤ على طريقة جبران باسيل. ومؤخرا اطل علينا مستشاره الدائم العبوس نقولا نحاس ليبشرنا بعشر ساعات كهرباء بعد سنتين او ثلاث، وقد نسي اننا قد وعدنا مرارا بعشرة او ١٢ ساعة وحتى ٢٤ من “زمان يا حب”.
وحتى يكتمل النقل بالزعرور، فقد تكلم النحاس متلعثما عن شركة EDF والثلاث معامل، بينها واحدة في منطقة سلعاتا اسماها معمل الشمال وكأن دير عمار يقع في القطب الجنوبي. وربما يؤشر هذا الكلام لمساومات ومحاصصات وصفقات تدور رحاها على هوامش معركة الرئاسة و vive la France وفوقها شكرا قطر.
مجددا لا نستهدف التخفيف من اولوية التصدي للاخطار الوجودية التي تهدد بلاد الارز، ولا من قيمة النضالات التي يقوم بها محبو هذا الوطن والمعارضون من كل الضفاف للهيمنة والتسلط والاحتلال المقنع، ولواننا نلاحظ ارتباكا والتباسا وعدم وضوح في تحديد الخطر السيادي واستطرادا في مواجهة تداعياته.
ما نؤشر له هو ان الناس بحاجة لالتقاط الانفاس وتجميعها ولو بانجازات صغيرة. وكما استشهد زميلنا نبيل ابو منصف بمحمود درويش بحاصر حصارك، فاننا نقول اننا صامدون هنا ولن نرحل وسنقاوم حتى لو تتطلب الامر حفر الجبل بالابرة.

زر الذهاب إلى الأعلى