مقالات

د. خواجة”هل ما زالت اوروبا جارتنا؟”

مقالة للدكتور طلال خواجة نشرت اليوم في جريدة النهار تحت عنوان “هل ما زالت اوروبا جارتنا؟”
لطالما اعتبرت ان وجود اولادي في جارتنا اوروبا هو اقل اشكالية من وجودهم في استراليا او كندا او الولايات المتحدة الاميركية. فهذه البلاد الشاسعة تقع في ذاكرة جيلنا فيما وراء البحار والمحيطات، رغم ان الثورة الرقمية والعولمة وانفجار الذكاء الاصطناعي حول الكوكب كله الى قرية كونية واسعة تتصارع على حاراتها وازقتها وثرواتها وفضائها الدول و الجماعات والافراد. علما انه من الطبيعي ان يساهم اولادنا الذين استثمرنا فيهم في جامعاتنا ذات السمعة الاكاديمية الكبيرة، بنهضة مجتمعهم وبتطوير قدرة بلدهم على مواجهة شتى التحديات في عالم من المنافسة الشرسة التي لا ترحم، فضلا عن ميلنا الانساني بان يعيش اولادنا في مدانا الاجتماعي، خصوصا حين تتساقط من حولنا اوراق الخريف الصفراء، ولكن ما باليد حيلة، فمواسم الهجرة الى الشمال ما زالت مستمرة.
في الولايات المتحدة على سبيل المثال، يبدأ اولادنا اقامتهم غالبا كطلاب أو زوار او متعاقدين في شركات ومؤسسات وجامعات، ومن ثم يتحولون الى مهاجرين مقيمين، قبل ان يصبحوا مواطنين متطبعين بواقع البلد المتكون أساسا من مهاجرين، ومن “عبيد سابقين” استقدمهم الغزاة الاوروبيون اللاهثون وراء الذهب والثروة والتوسع من افريقيا السوداء الى القارة الاميركية في واحدة من ابشع عمليات الغزو والاستعباد والاستيطان. و هذا الغزو قد ترافق مع عمليات احتيال ونفاق واقتلاع للسكان الاصليين، سواء اصحاب الحضارات البدائية كالهنود الحمر والاسكيمو والابوريجينال، سواء اصحاب الحضارات الأبرز كشعوب المايا و الانكا و الازتبك وغيرهما.
في الواقع، كل الامبراطوريات في التاريخ قامت باعمال اجرامية خلال تشكلها وتوسعها وتطاحنها وتنافسها وتعاونها، ناقلة معها ثقافاتها وانماط عيشها بحسناتها و شرورها، بما فيها شرورها الوبائية و شرورها البيئية، وان اختلفت وتيرتها وطبيعتها وحجمها بالنظر لطبيعة الغزاة الأنثربولوجية ولمقاومة اصحاب الارض. كما لم يعد مخفيا مستوى المنسوب العالي لتوحش الاروبيين في غزواتهم الاستعمارية في جميع القارات، كما في تطاحن امبراطورياتهم ودولهم و شعوبهم، قبل ان تعود الامور لتأخذ مسارا تصالحيا بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا بعد انشاء الاتحاد الاوروبي وبدء مسار ثقافي انفتاحي مختلف الى حد كبير عن الولايات المتحدة حاملة راية العسكرة والهيمنة وافتعال الحروب والازمات. الامبراطوريات العربية لم تشذ عن هذا المسار، وهي وان اتسمت عموما بنسبة عالية من التسامح والانفتاح والتواصل العلمي والحضاري، فانها لم تقصر عند الاضطرار في الاستعلاء و استعمال العنف في سياق بسط سيطرتها على الاراضي والبلاد التي دخلتها أو التي احتلتها. و الواقع فان السيطرة السياسية والادارية على المناطق العربية او التي استعربت ثقافيا فقدها العرب لبعض من استقدموهم واستخدموهم في توسعهم و في صراعاتهم البارا-قبلية لبضع مئات من السنين، و دخلوا لاحقا في ركود فكري وحضاري، الا أن شكلت حملة نابوليون على مصر صدمة حضارية كبرى، اسست لاحداث و لمسارات فكرية نهضوية واصلاحية في محاولتهم لردم الهوة السحيقة مع الغرب المتقدم. وللمفارقة فان ضابطا عثمانيا الباني الاصل، قويا، طموحا و متنورا، اسمه محمد علي سيبفرض نفسه بدهائه الماكيافيلي واليا على مصر بعد ان يستكمل القضاء على المماليك و بعد ان يستمصر و يستعرب ثقافيا معلنا ان “شمس مصر المحرقة حولت دمه عربيا”، فيستبدل الإدارة المملوكية للولاية المصرية بادارة “عربية”، ويواجه الوهابيين المتشددين في الجزيرة العربية ثم يتصادم مع السلطان نفسه محررا بلاد الشام وبعض اسيا الصغرى، قبل ان تخذله فرنسا ويتراجع تحت ضغط القوى الاوروبية الأخرى. ذلك ان محمد علي بدا و كأنه سيعيد بعث امبراطورية كبيرة بنكهة عربية، كانت ستشكل حتما عائقا امام مصالح ومطامع ومشاريع هذه القوى في الشرق الجاذب، علما انه وضع الاسس النهضوية للدولة المصرية الحديثة وان اجبر على البقاء تحت مظلة الباب العالي وبشروطه.
وبالفعل فقد حدت القوى الاوروبية من طموحات محمد علي واولاده الاستقلالية، متدخلين بشؤون مصر نفسها التي دخلها لاحقا الماكر الانكليزي على رافعة الديون المصرية متصديا لثورتي احمد عرابي وسعد زغلول الوطنيتين. كما اصبح الشرق الاوسط برمته مجالا حيويا لتدخل هذه القوى، خصوصا فرنسا وانكلترا اللتان عملتا لاحقا على اقتسام النفوذ في المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الخلافة العثمانية على ما ظهر في وثيقة سايكس/بيكو و بيان بلفور.
لن نتوسع في شرح المرحلة التي هيأت لنشوء الكيانات العربية، رغم انها اتسمت بحيوية فكرية ولغوية و بحراك نهضوي بشقيه الليبرالي الثوري والاصلاحي الديني، كما اتسمت باستفحال المطامع الكولونيالية في المنطقة العائمة على النفط والتاريخ والجغرافيا. ومع ذلك نشير الى ان الجشع الرأسمالي الكولونيالي ادى الى ضرب و تشتيت التيار الليبرالي المتطلع الى الحرية والحداثة والديمقراطية، كما ادى الى تراجع تيار الاصلاح الديني، علما ان الحوار بين التيارين كان يتجه نحو اعتماد الديمقراطية كنظام سياسي و نحو الفصل الناعم بين الدين والدولة كما ظهر في صياغة دستور المملكة العربية السورية الوليدة التي سحقتها فرنسا بالتواطؤ مع إنكلترا. والنتيجة ان قويت شوكة الاستبداد و الاقطاع التقليدي وملاك الاراضي، ونشأ تيار الاخوان الاسلام السياسي التصادمي على حساب تيار الاصلاح الديني التصالحي. و مع التشجيع الاوروبي للهجرة اليهودية الى فلسطين و تأسيس الكيان الصهيوني فيها وتهجير الفلسطينيين المترافق مع نكبة ١٩٤٨ قويت اواصر الدكتاتورية، خصوصا الديكتاتورية العسكرية التي صادرت القليل من الحريات المكتسبة تحت عنواني التحرير والتنمية، فلم تنجز التنمية و تسببت بكارثة احتلال كل فلسطين و ما بعد فلسطين أثر هزيمة ١٩٦٧.
لماذا ننبش التاريخ و نقحم حاضر ومستقبل اولادنا في مفارقه؟ ربما لهول ما نراه في الصوت و الصورة في غزة من وحشية وبربرية مزقت المشاعر العالمية،.
وحشية يمارسها نتانياهو و زملاؤه الصهاينة وجنرالاته العنصريين بدعم اميركي وغربي صارخ. وبصمت عملي من الصين وروسيا، كما من ايران و تركيا اللتين التجأتا سياسيا الى القمة العربية و الاسلامية، رغم المشاغبة الايرانية عبر بعض اذرعها في المنطقة لتحسين شروط تفاوضها مع الشيطان الاكبر. هذه الوحشية تذكرنا بالمحرقة النازية التي يقتبسها هؤلاء الوحوش الفالتة و الذين قتلوا في سياق انتقامهم الأعمى مواطنيهم و بعض الرهائن ايضا. وتعبير “وحوش على شكل بشر” استخدمه احد رهبان القسطنطينية في شهادته عن المذبحة التي قام بها في المدينة البيزنطية المستباحة بعض فرق الفرنجة في طريقها لتنفيذ “حمامات دم مقدسة” في القدس و المعرة وغيرهما. و لأن منطقتنا تقف مجددا على اعتاب مرحلة تحول مصيرية يمثل مستقبل فلسطين احد مرتكزاته، بعد ان انهار واقعها القديم مظهرة ملامح نظام عربي جديد يتمثل بصعود حداثي خليجي متنور، تجري محاولات تطويقه واحتوائه، و بربيع عربي متعثر، خصوصا في دول المشرق المتحولة الى انقاض سياسية تحت مطرقة اذرعة النظام الايراني وسندان مصالح اميركا و القوى الكبرى و الاقليمية. كما ان الالتحاق الرسمي الاوروبي بالهوس التصادمي الاميركي فاق توقعاتنا، بعد ان اراحتنا التحولات الثقافية والاقتصادية الانفتاحية في الجارة الاوروبية. فهذه التحولات استندت على تقاطع مصالح و تواصل ثقافي بين الجارين اللدودين، بدا وكأنه يطوي الماضي واشكالياته، قبل ان يؤدي صعود اليمين الشعبوي على رافعة ازمة النيو ليبرالية المتوحشة الى رجرجة هذه التحولات. علما ان بعض النخب في بلادنا قد أطلقت فكرة العوربة، حتى أن الامير محمد بن سلمان تكلم عن رؤية شرق اوسط مسالم و مزدهر “واوروبي”.
ومع انني لا أريد التخفيف من الاسلاموفوبيا و الاسلموفيليا، الا انها باتت تميل اكثر للعربو فوبيا و العربوفيليا، فالخلاف الاميركي مع الايرانيين، و الى حد ما مع الاتراك، هو في طبيعة الدور و حجم الحصص بين مثلث التماسيح في المنطقة التي يعمل الغول الاميركي على التحكم بتوزيعها وافتراس الحصة الاكبر منها.
لم يتوقع احد ان تبرز انياب العرب، المخلخلة اصلا، بمواجهة الوحوش الضارية، خصوصا مع تراجع التيارات الشعبية الديمقراطية وتنامي مظاهر التطرف الديني . ومع ذلك فإن المواقف المبدئية التي أخرجتها قمة ٥٧ بلد في الرياض أوحت بأن ضرس العقل ما زال يعمل. فقد جرى اعتبار مذبحة غزة حرب ابادة تشارك فيها اميركا و الغرب عموما بصمت او عجز دولي. ومع المطالبة البديهية بوقف إرسال السلاح الى اسرائيل ووقف اطلاق النار وفك الحصار و ايصال المساعدات الى غزة المنكوبة، جرى التأكيد على مواجهة كل مشاريع الترانسفير، و على ضرورة البدء فورا بالحل السياسي على اساس الدولتين والمبادرة العربية، كما جرى التأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني تحت راية منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية وبوجود الرئيس الإيراني. وفي الواقع فأن اقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية اصبح ميزانا للمستقبل الاستراتيجي للمنطقة في مرحلة التحولات الكبرى نحو عالم دولي جديد. فهل تقبل الجارة الاوروبية ان تتماهى مع الموقف الاستعلائي الاميركي و مع اليمين الديني والقومي الصهيوني وتساهم في تحويل مهد الحضارات الى ميدان لصراع الحضارات، وربما صراع أديان لن تنجو منه اوروبا وحتى اميركا وباقي العالم المتقلب بمعظمه على الجمر الجيوسياسي و الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والوبائي، حتى لتكاد الفجوات الطبقية والفجوات بين الدول ان تبتلع معظم الإنجازات الانسانية التي صنعها تواصل وتنافس وتلاقح الحضارات عبر التاريخ.
شكلت مظاهرات الاعتراض الشعبية في المدن الغربية على الهمجية الاسرائيلية المدعومة من معظم النخب السياسية في اروربا واميركا نقطة ضوء في الظلام. كما شكلت مشاركة مجموعات يهودية كبيرة بشعار “ليس باسمنا” علامة مميزة في هذه الحراكات. ومع ان الجانب الانساني في الحراكات الشعبية كان طاغيا في البداية، الا أن الجانب السياسي سرعان ما بدأ يتظهر بالدعوة لاقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة ، علما ان حرية التعبير بدت مهددة في مهد الديمقراطية الاوروبية وقاربت مستوى witch hunt المصبوغ ببعض المظاهر الفاشية. لن أ ذهب الى حد المراهنة على قدرة حركات التضامن مع فلسطين في استعادة الجارة الاوروبيةالرسمية لدورها الذي فقد توازنه ملتحقا بالذيل الاميركي، خصوصا بريطانيا والمانيا وحتى فرنسا ورئيسها الانتهازي، الا أنني ارى تقاطعا كبيرا في الاهداف بين الحركات الاعتراضية المتنامية في اوروبا والولايات المتحدة وبين نضال شعوبنا، وفي مقدمها نضال الشعب الفلسطيني الجبار من اجل الحرية و من أجل السلام القائم على العدالة والامن والازدهار. كثير من “المتظاهرين البيض” رفعوا شعار فلسطين تحررنا، و يسجل لقادة اسبانيا وايرلندا وبلجيكا و سكوتلندا ريادة في اختراق الغشاء العنصري و البوليسي والحفاظ على القيم الاوروبية. ورغم ان الربيع العربي قد تعثر وتدمى في اكثر من دولة، الا انه لم يندثر، وهو عملية مستمرة ببعديها الوطني الديمقراطي والعربي المفتوح على الافاق. و لأولادنا في الانتشار، خصوصا في الغرب دور كبير في البعدين. وقد اثبتت الحرب الهمجية على غزة ان القضية الفلسطينية بابعادها المتعددة موجودة في وجدان كل عربي اين ما كان، وتتمدد من جديد لتكون في وجدان كل محب للحرية وكل كاره للغطرسة والعنصرية والتطرف.

زر الذهاب إلى الأعلى