مقالات

د. خواجة:”في الثقافة وفي طرابلس عاصمة للثقافة العربية٢٠٢٤”

 

كتب الدكتور طلال خواجة مقالة في جريدة النهار تحت عنوان “في الثقافة وفي طرابلس عاصمة للثقافة العربية ٢.٢٤” جاء فيها:

تحتضن الثقافة طيفا يمتد من المعالم التاريخية التي نعتز بها والمتاحف إلى ممارسات التراث الحي وأشكال الفن المعاصر، وتترك بصمتها في حياتنا بطرق لا حصر لها وتساعدنا في تشييد مجتمعات شاملة، مبدعة وقادرة على التأقلم. تندرج حماية التراث الثقافي والطبيعي وصونها، ودعم الإبداع والقطاعات الثقافية في عداد العوامل الأساسية الضرورية لمواجهة التحديات التي تعصف بنا في هذا الزمن الصعب بدءا بالفقر وعدم المساواة والنزاعات والحروب والاحتلالات وصولا للفجوات المختلفة، بما فيها الفجوة الرقمية المتزايدة اتساعا. وتعد الثقافة عاملا أساسيا وحيويا لبناء وتنمية المجتمع، إذ تمنح الفرد شعورا بالانتماء، لا سيما إذا كان أفراده يتكلمون اللغة نفسها.

أصبحت اللغة الثقافية ومفرداتها ( ثقافة سائدة، ثقافة نمطية، ثقافة سياسية، ثقافة اقتصادية، ثقافة اجتماعية، ثقافة فنية، ثقافة شعبية، ثقافة نخبوية، ثقافة علمية، ثقافة رقمية،…، مثقف منتمي، مثقف عضوي، مثقف السلطة…) ترافقنا في حلنا وترحالنا، سواء في المدارس والجامعات والمعاهد والمراكز الثقافية وصولا للمقاهي والمساحات العامة، سواء في متابعتنا الفكرية والأدبية والحزبية، سواء في حياتنا الاجتماعية اليومية، أمام الشاشات والإذاعات والصحف أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتزايدة انتشارا ونفوذا وتأثيرا.

وتتغير المفاهيم و المسارب الثقافية مع انفجار ثورة الذكاء الاصطناعي المتحول إلى عامل رئيسي في رسم مرحلة حضارية جديدة تلجها البشرية ونشهد إرهاصاتها في التحولات العالمية الكبرى عبر الأمن والعسكرة والحروب الاقتصادية والسبرانية، و للمفارقة بالتلازم مع استحضار وشحذ الأسلحة الايديولوجية والشعبوية المستنفرة للعنصرية والعصبيات والأعراق والأديان. ومع أن الحضارات والثقافات بما تختزن من قيم وأفكار متنوعة هي حصيلة تواصل وتلاقح وتنافس وهي تعتبر “المستودع المشترك للإنسانية جمعاء” إلا أن الجشع والاستعلاء والعنف العاري لطالما حول فضيلة التنوع والتلاقح الثقافي من التثاقف إلى القهر، مما يولد الإحباط والانطواء والانفعالات، ويغلب ردود الفعل الغريزي على الفعل العقلاني.

شاع استعمال مصطلح الثقافة بدءا من منتصف القرن التاسع عشر، إذ عنى تلك القدرة الإنسانية الشاملة على التعلم ونقل المعارف واستخدامها في الحياة، وأصبح مفهوم الثقافة من المفهومات المركزية التي تعالجها الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، شاملا كل مظاهر حياة الإنسان المتحول إلى كائن ثقافي.

عرف تايلور الثقافة على أنها ذلك الكل المركب والمعقد الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والقانون والعادات التي يكتسبها الإنسان من المجتمع في المجالين المادي وغير المادي ويعبر عنها باللغة التي يتعامل بها. كارل ماركس تكلم عن الثقافة السائدة في مجتمع ما بصفتها ثقافة الطبقة الرأسمالية الحاكمة. لاحقا جرى تجريد الثقافة عن السلوك الذي تطبعه في المجتمع، فقيل فيها أنها روح الديمقراطية وذاكرة الشعب وأسلوب حياة المجتمع وهي ما يبقى مع الفرد بعد ان ينسى كل ما تعلمه بالمدرسة.

المبدع ابن خلدون كان قد عرف الثقافة على أنها الدراية الجيدة بكل ما يتعلق بمجال ما فكرا وممارسة، وكانت هالته الثقافية قوية لدرجة أن تيمورلنك وسطه لإقناع المحاصرين في دمشق على فتح مدينتهم أمامه واعدا بتجنيبها المصير البغدادي.

أدى اختيار طرابلس في سنة ٢٠١٨ عاصمة للثقافة العربية للعام ٢٠٢٣ (تأجلت للعام ٢٠٢٤) إلى موجة من التفاؤل عند النخب الثقافية والمدنية، سرعان ما أصبح تفاؤلا عاما بعد أن تحول الموضوع إلى فقرة أساسية في الحياة الثقافية الناشطة. ذلك أن القرار اعتبر فرصة بالغة الأهمية لأن تستقطب المدينة الاهتمام الرسمي، فتصلح البنى التحتية المتهالكة وترشق البنى الفوقية المترنحة وتتحسن خدمات المرافق المتصدعة، ومن ثم ترمم الآثار التاريخية والأبنية التراثية التي لطالما جلبت للفيحاء لقب المتحف الحي.

وللمفارقة فإن المدينة التي جرى تهميشها وتنميطها بالتشدد والتطرف والتخلف، بتسبب أو بتجاهل او بتواطؤ من بعض نخبها السياسية والأهلية أحيانا، خصوصا أنها تتعرض دائما للإرتجاجات لقربها من الفالق السوري، يعتبرها أهلها مدينة لبنانية عربية مقاومة مدنيا وثقافيا. برزت هذه المقاومة في محطات مختلفة، حتى أن الحراك الديمقراطي لقوى المجتمع المدني لم يهدأ عندما استهدفت المدينة أمنيا، فرفع شعار العبور للدولة من جهة وعدم الكيل بمكيالين من جهة أخرى، فضلا عن استنفار فني وثقافي غير مسبوق أثار الإعجاب والاحترام والإقبال من كل حدب وصوب.

تحتضن المدينة عددا كبيرا من المراكز والروابط والمؤسسات والبيوت والصالونات الثقافية التي تزخر بالنشاطات، واحتضنت ايضا الكتاب والفنانين التشكيليين والمخرجين والممثلين والثائرين الحالمين، علما ان معظم جمعياتها المدنية حولت مراكزها إلى منصة للندوات والحوارات والنشاطات التي لا تهدأ. وقد انعكس كل ذلك في انتفاضة ١٧ تشرين حين تحول حراك المدينة إلى أيقونة جاذبة لعشرات الآلاف من المنتفضين، وجذبت ساحاتها وخيامها النخب الثقافية والمدنية والأكاديمية من بيروت وباقي المناطق، لذا جرى استهدافها واختراقها من قوى الهدم المرتهنة بأعمال تخريب طالت البنوك والبلدية والسراي الحكومي مخلفة الأذى والجروح في المدينة العريقة.

الطرابلسيون يفخرون بمدينتهم التي أنشأها الفينيقيون كواحة للتلاقي والتعاون التجاري والثقافي بين المدن/الدول الثلاث، ارواد وصيدا وصور، وقد تلاقحت فيها شعوب وحضارات مختلفة على مر العصور والامبراطوريات، آثار معظمها ما زال ماثلا كالمدينة المملوكية القديمة وقلعة سان جيل والخانات العثمانية. وتعتبر طرابلس الأغنى تراثيا على الساحل الشرقي للمتوسط، وسميت مدينة العلم والعلماء ومكتبتها دارالعلم كانت هائلة، حجما وتنظيما.

ساهم الطرابلسيون بشكل فعال بالنهضة الثقافية والفكرية العربية منذ القرن التاسع عشر، فألفوا الكتب والمراجع وأسسوا الصحف والمجلات والنوادي والمحترفات الفنية، وأنشأوا المطابع والمكتبات ودور النشر والمسارح ودور السينما والمدارس ولاحقا الجامعات، كما أقاموا المعارض والمهرجانات وأقبلوا على الإرساليات والمعاهد والمراكز الثقافية.

جمع الطرابلسيون بين مقاومة مشاريع الغرب الكولونيالي والإقبال على العلوم والفنون وأفكار الحداثة، كما زاوجوا في نمط حياتهم بين المحافظة الاجتماعية والانفتاح الليبرالي، فبرز منهم المصلحون كالشيخين حسين الجسر ورشيد رضا والعلماني فرح أنطون وشاعر الفيحاء سابا زريق. وكان لرشيد رضا وسلطان عثمان دور رئيسي في إنجاز دستور المملكة العربية السورية في ١٩٢٠ والذي فصل عمليا بين الدين والدولة ومال نحو قضية تحرير المرأة، علما أن المرأة الطرابلسية برزت لاحقا في مجالات متنوعة، مثال لواحظ مسيكة زميلة حسن مشرفية في تأسيس كلية العلوم والجامعة اللبنانية سنة ١٩٥١وممدوحة السيد أول امرأة مندوبة للبنان في الأمم المتحدة والفيرا لطوف وهيلين توماس في عالم الصحافة.

يتفاخر الطرابلسيون بالانفتاح والتنوع والتعدد رغم الصورة النمطية المعاكسة، ويشكون من مظلومية سابقة رافقت تأسيس الكيان، تجددت وتضخمت مع فائض القوة الميليشياوية المتحكمة بالبلد، رغم إيمانهم بالدولة وتمسكهم بالمؤسسات، ويطيب لهم أن يذكروا دائما برفضهم إنشاء إدارة مدنية خلال الحرب الأهلية على غرار باقي المناطق وتشكيلهم“المجلس الوطني للعمل الاجتماعي” لإدارتها من هيئات ونقابات وجمعيات منتخبة، كان يتركز في الرابطة الثقافية التي وصفها غسان تويني في ١٩٩٩بأنها “تعاقد تاريخي بين أجيال من التوق الفكري أكثر منها بين أحياء من الجيل الواحد”.

يقاوم الطرابلسيون المظلومية والتهميش بالحراكات والمبادرات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

١- مبادرة غرفة التجارة والصناعة والزراعة من أجل طرابلس الكبرى عاصمة اقتصادية للبنان.

٢- مبادرة وضع معرض طرابلس الدولي على لائحة التراث العالمي. وقصة المعرض بحاجة لمجلدات.

٣- مبادرات التضامن الاجتماعي والإنساني التي تساهم في مواجهة الفقر والمرض وتبلسم الجروح الاجتماعية، خصوصا في الأحياء المهمشة.

٤- المبادرات والحراكات البيئية التي خفت مع استفحال الأزمات والانهيارات وهجرة بعض النخب الناشطة.

٥-الحراك الواسع من أجل البناء الجامعي الموحد في المون ميشال، والذي رافقه إنشاء جدار بوزار للسلام من قبل أبرز الفنانين التشكيليين ضمن شعار “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” وانجاز نصب بوزار للتواصل الثقافي والاجتماعي وترميم مباني العلوم التاريخية ومنطقة بوزار المحيطة على طريق إنشاء مركز ثقافي إنمائي لإنعاش منطقة قبة النصر وبعل محسن وغيرهما من المناطق المهمشة.

تجدر الإشارة إلى أن تفجير الحريري المروع ادى إلى تدفق الطرابلسيين إلى ساحة الحرية، كما استجر تمدد الجداريات إلى كل مكان، محولة الريشة الطرابلسية الى سلاح ثقافي، حداثي وسيادي بوجه الجريمة، مما جذب للفيحاء لقب مدينة الجداريات.

لا نريد أن نقلل من أهمية النشاطات الثقافية التي تقام في المدينة، سواء تحت رعاية وزارة الثقافة، سواء تلك التي يقوم بها آخرون وبينهم تجمع “فيحاؤنا”، بل يجب توجيه التحية والتقدير لجميع المشاركين على جهودهم الجبارة في هذا الزمن الصعب.

ومع ذلك لا نرى أن وقع هذه الأعمال يتناسب مع الحدث الجلل. فالمدينة لم تشهد إنجازات استباقية جدية في البنى والخدمات والترميم، بل شهدت اهتراء إضافيا و“تدميرا مجازا” لبعض الأبنية التراثية. كما أن واقعها الصحي والبيئي والخدماتي إلى تراجع رغم الارتفاع الهائل للرسوم والضرائب.

في الواقع أننا لا نلمس قضايا ثقافية أساسية تنتظم تحتها الحراكات الثقافية المختلفة على أهميتها، بما فيها قضايا الثقافة أو الثقافات العربية والتحديات التي تواجهها، منها تحديات تطور اللغة ومرونتها وتناسبها مع القفزات العلمية والتكنولوجية. كما لا تظهر الهوية الثقافية للمدينة العريقة والمقاومة تاريخيا لجميع أنواع القهر، بما فيها محاولات تغيير الهوية الثقافية اللبنانية والعربية الحرة والمنفتحة على جميع الثقافات والتي أعطت للبلد الصغير والمتنوع بعض ميزاته وجعلته جسر عبور بين الحضارات والثقافات.

وبالنظر للفجوة الكبيرة التي تفصل بين الحدث ومنظميه من موظفين ومستشارين متخمين مع رعاتهم بالخواء والنفاق الثقافي الذي شهدنا بعض فصوله بمحاولات المنع المتكررة لأعمال فنية بهدف صرف النظر عن الأخطار الحقيقية التي نواجهها، وبالنظر للعبث بالدستور والحريات والعيش الواحد من السلطة المهيمنة، لا يمكن توقع الكثير. علما ان البلد الجميل و المتداعي يرمى أمام الأخطار الوجودية، بما فيها خطر التدمير في الحروب من عدو متوحش كرمى لعيون الآخرين، وطبعا ليست عيون أطفال غزة الغائرة.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى