مقالات

د. خواجة« السيدة الوديعة: بين المقدسة والمدنسة والمغتصبة » 

كتب الدكتور طلال خواجة صباح اليوم في جريدة النهار مقالة بعنوان« السيدة الوديعة: بين المقدسة والمدنسة والمغتصبة » قال فيها:
“في اجتماع النواب لاقرار موازنة ٢٠٢٤ العجائبية اقترح النائب علي حس خليل ان يصبح الدولار المصرفي ٢٥ الف ما أثار رفض وامتعاض معظم النواب، ذلك أن الودائع (أو ما بقي منها) هي مقدسة، كما يصرحون جميعا وعلى رأسهم الرئيس بري.
لم تسعف سمعة النائب الأملي التي تلطخت في ادارة وزارة المال في سنوات الغليان المالي وفي جريمة تفجير المرفأ, و لا أسلوبه في توضيح اقتراحه الاستطلاعي والغير عفوي. بالمقابل لم نسمع محاولة جدية من الكتل النيابية لتحرير الدولار المصرفي مع سقف سحوبات يسمح بلجم التضخم، ولكن يحمي الودائع من استكمال جريمة الهيركات.
علما ان موضوع موازنة ٢.٢٤ ترافق مع عجقة تصريحات حول ضرورة ان يصبح الدولار المصرفي مطابقا مع سعر السوق الذي اعتمده المصرف المركزي اصلا، و الذي باتت تحتسب على اساسه، ليس فقط اسعار السلع المستوردة، بل كل شيء بما فيه الجمرك والاتصالات والكهرباء والضرائب والرسوم والانفاس، ولم ينج من الدولرة سوى الرواتب وبعض الاجور والودائع المقدسة!
لقد ظن البعض أن عملية سحق ودائعهم بهيركات اجرامي قد تتوقف أخيرا، وإن كان بالتلازم مع سقف متدني للسحوبات مراعاة للتضخم، ما يبقي عندهم بعص الأمل، بأن إعادة اطلاق الاقتصاد قد يعيد تكوين جنى عمرهم في المستقبل.
 وعلى سيرة مراعاة التضخم نتساءل من أين تحصل المصارف التي تعرض على المودع قبض وديعته كاملة على دولار ١٥٠٠٠ وما دون حسب تاريخ الوديعة؟ هل عندها فائض من ليرات صيرفة؟ ام ماذ؟وهل استبدلت تجارة الشيكات التي استهدفت المودعين المحتاجين بتجارة تستخدم ارباح و فائض صيرفة؟ وأين سعادة الحاكم بالنيابة ومجلسه المركزي، بل أين لجنة الرقابة على المصارف؟ و أين المعارضات، خصوصا التغييرية، بل أين الروابط و النقابات وجمعيات المودعين؟
فبينما يشغل الرئيسان بري والميقاتي النواب بقراءة مئات الصفحات البرلمانية، تقوم المصارف بمتابعة سحق الودائع، ما يجعل بعض المودعين المحبطين في متاهات العبث السوريالي، يقبلون بأن تسحق ودائعهم ب٢٥٠٠٠ بدل ١٥٠٠٠ ألف. وهذا ما يبدو أن السلطات الجائرة والفاسدة والمتواطئة مع فائض القوة تستغله في المماطلة. اما خرجية ١٥٠$ التي ستتفنن المصارف بتعذيب المودعين قبل الحصول عليها فسنقاربها لاحقا.
في حزيران ٢٠٢١ أصدر الحاكم سلامة التعميم ١٥٨ للسحوبات الدولارية( الغير fresh. يوجد دولار طازة ودولار second hand والاخير انواع). الودائع الدولارية (الغير فريش) مع هذا التعميم أصبحت ثلاثة أنواع:
 ١- الودائع المقدسة: وهي ودائع يملكها محظيون و اصحاب النفوذ و التي لم تخضع لأي تعميم، بل جرى تحويلها والحقيقة تهريبها خلال فترة الاغلاق الاسود لفروع المصارف عند انطلاق انتفاضة الغضب والذي انتهى في ٣١/١٠/٢٠١٩. علما أن تهريب هذه الودائع ما زال مستمرا، و لهذا السبب لم يقر كابيتال كونترول أساسا. وترك كونترول الودائع الأخرى لحامل الريموت رياض سلامة المحمي من جميع “الأوادم”.
 ٢- الودائع المدنسة: هي الودائع الدولارية التي تكونت قبل ٣١/١٠/٢٠١٩. وهي التي أكرم السيد سلامة أصحابها بالتعميم ١٥٨ والذي سمح بسحب شهري نقدا ٤٠٠ $ و ٤٠٠ $ أخرى بالليرة على جزئين مع هيركات، بدأ مقبولا، ثم كبر مع استمرار انهيار سعر الصرف، الى أن توقف مع الغاء الجزء الثاني في مطلع الصيف. علما أن هذا التعميم صيغ بطريقة مفخخة ساعدت أصحاب المصارف على التحايل عند التطبيق.
 ٣- الودائع المغتصبة: وهي الودائع الدولارية التي تكونت بالتحول حسب الاصول من الليرة للدولار بعد ٣١/١٠/٢٠١٩، والتي لم يسمح لأصحابها بالاستفادة من التعميم ١٥٨ بل تابعت المصارف سحقها بالتعميم ١٥١ و ابتدع لها الفرعون سلامة تعبير الودائع الغير مؤهلة. وهناك فئة من الودائع الدولارية المتكونة قبل ٣١/١٠/٢٠١٩ استثنت من التعميم بذريعة تحولها بعد هذا التاريخ لمصرف آخر او لمودع آخر ضمن نفس المصرف. علما أن هذه الفئة من الودائع سمحت لبعض المصارف بالتهرب من تطبيق ١٥٨ لأصحاب الودائع المزدوجة و سأعطي مثلا:
مودع كان عنده وديعتان قبل ٣١/١٠/٢٠١٩
واحدة دولارية؛ لنقل ٢٠ الف دولار
 و واحدة بالليرة لنقل ٥٠ مليون ل ل.
 حول هذا المودع بعد هذا التاريخ من الليرة الى الدولار بقيمة ٢٥ الف دولار مع سنة تجميد، ثم اضيفت بعد الاستحقاق مع الوديعة الأولى الجارية لتصبح ٤٥ الف دولار، ثم حول ٢٢ الف$ الى بنك آخر قبل صدور التعميم ١٥٨. حينها يمكن ان تقول ادارة البنك للمودع ان ما تبقى من الوديعة هو المحول من الليرة بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ ولا يستفيد من ١٥٨.
و طبعا المودع العادي لا نصير له في القضاء أو عند فراعنة السلطة ولا عند المعارضات المختلفة ولا في علبة شكاوي المجلس المركزي.
و ربما لتخفيف الظلم( وليس رفعه) عن هذه الفئة اصدر د.منصوري التعميم ٦٨٢ لتعديل ١٥٨ في ١٧/١١/٢٠٢٣ والذي لم يطبق حتى كتابة هذه السطور، علما أنه كان يجب على د.منصوري أن يصر على المفعول الرجعي منذ صدور التعميم ١٥٨ مع مراعاة التقسيط المرن حسب السيولة.
لقد ظن البعض أن التعميم ١٦٦ المتعلق بخرجية ١٥٠$ سيدفن الفكرة الاجرامية المتعلقة بتأهيل الودائع، فاذا بنا نعيد اكتشاف شياطين السلطة في خطة الانتظام المالي وهيكلة المصارف، حيث فرزت الودائع بين مؤهلة يعاد منها ١٠٠ الف دولار وغير مؤهلة يعاد منها ٣٦ الف دولار. علما أن الودائع الدولارية المركبة و المكونة من دمج و سحب حسابات قبل ٣١/١٠/٢٠١٩ و بعده تكاد تعد ولا تحصى، ما بجعل فرزها بين جزء مؤهل وجزء غير مؤهل نوع من الكوميديا السوداء، بيد مخرج شيطاني.
 من اين اتى هؤلاء الشياطين برقم ٣٦؟ هل استنسب من رقم حساب ٣٦ للمالية، او هو حاصل تقريبي لقسمة ١٥٠ على ٤٠٠. علما أن معدل سعر الصرف اواخر ٢٠١٩ لم يتجاوز ٢٠٠٠، و كثر حولوا للدولار حين كان سعر الصرف ١٧٥٠. وهكذا يصبح مشروع ١٥٠$ عامل تأكيد على بدعة التأهيل الاجرامية وليس عاملا معاكسا لها. فلنكف عن التصفيق.
الارجح ان لا يمر مشروع الحكومة، وخصوصا بعد قرار مجلس شورى الدولة حول قدسية الملكية الخاصة المحمية بالدستور. ولكن الازمة ستتفاقم والفرز الغير مشروع بين الودائع مستمر، ومفاعيله مستمرة سواء بالهيركات، سواء بالخرجية السخيفة القادمة، علما ان الغموض بالدولار المصرفي استمر مند بداية السنة و معه المقصلة مستمرة.
والمطلوب وقف الهيركات نهائيا و وقف انهيار القدرة الشرائية واعتماد مقاييس عادلة و دستورية في الفترة الانتقالية ومحاسبة الجلادين وليس الضحايا.
ومع اصرارنا لالغاء بدعة الفرعون سلامة في نظرية الودائع الغير مؤهلة وملاحقة الودائع الغير مشروعة في البلد وخارجه، نعيد تظهير بعض الملاحظات:
 ١- من تاجر بالشيكات وبالفوائد الدسمة ومن سمح له صاحب المصرف بموافقة المركزي بتحويل مبالغ كبيرة جدا من الليرة للدولار بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ يسهل معرفته، خصوصا برفع السرية المصرفية. علما ان البعض النافذ ربما استطاع تسييل الوديعة المحولة( أو بعضها) من الليرة نقدا او تحويلها للخارج. ولم يعد جائزا متابعة تحميل الشريحة الدنيا من هذه الفئة كلفة الاعيب النافذين.
 ٢- ان حسبة بسيطة تظهر ان الشريحة الدنيا من أصحاب الودائع المحولة من الليرة بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ جرى استغلالها والتحايل عليها من قبل بعض المصارف بموافقة وربما تشجيع من جماعة المركزي. ٣- لا يوجد سذج لدرجة الاعتقاد بأنه يوجد حلول لاسترداد الودائع او لحل الازمة المالية والنقدية والمصرفية عموما دون حلول سياسية واقتصادية وحتى سيادية، و كنا وما نزال نتمنى التعاون بين المصارف والمودعين لانقاذ القطاع المصرفي من العابثين بمقومات البلد الصغير. ولكن لماذا على المستضعفين أن يدفعوا كلفة الانتظار بتعاميم وقرارات وإجراءات استنسابية و معارضة للدستور، وهو سلاح وملاذ الذين لا سلاح لهم.
لكل هذا نطرح السؤال العاجل؛
من من المعارضات المتنوعة والمتعددة واكاد اقول المتشظية، اكانت سياسية أم نقابية ام من المجتمع المدني العريض “سيتأهل” لمواجهة جدية لهذا الاستنزاف الانتظاري القاتل ولهذا الفرز الاجرامي الغير دستوري بين ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة.
كل شيء يسير باتجاه واحد. حزب الله يحتكر الحرب والسلم، واضعا البلد على شفير الدمار لمصلحة رعاته، و هو يدير اقتصادا موازيا، يتخلله التهريب والتهرب، كما يتحكم بمعظم مفاصل ومرافق الدولة.
الأزمات المصرفية والمالية و الاجتماعية والبيئية تدار باتجاه واحد أيضا، وهو ما سيؤدي الى مزيد من الافقار والانهيار والهجرة. لذلك نرى انه عوض البحث في جنس الملائكة، فلتتقدم المعارضات والنقابات والجمعيات المدنية المؤهلة في التصدي للإفقار و وضع الخطط لمواجهة أجناس والاعيب الشياطين.
وقديما قيل اشبع ثم تفلسف. فهل ان نتوقع ان مواطن مستنزف في رحلة تأمين كلفة اخراج قيد وصولا لكلفة الباسبور مرورا بعشرات المعاملات، فضلا عن مدفوعات المياه والكهرباء والغذاء والصحة والتعليم و… قادر على الاستماع لفلسفة حكمائنا.
 بالمناسبة نكاد نكون البلد الوحيد في الكوكب الذي ما زال يعتمد المختار و اخراج القيد الذي اصبح مع جميع البيانات على حاسوب كل مواطن في اي بلد طبيعي، و ليس وسيلة لتعذيب المواطنين و تشليحهم ما تبقى في جيوبهم. انها علة في الطبقة السياسية والطوائف السياسية والمفاتيح الانتخابية وحتى في النخب السياسية وليس في الدستور. المسيرة طويلة وشاقة يا رفاق، فلنتقدم.”
زر الذهاب إلى الأعلى