مقالات

د. خواجة : “تقليب في أوراق اوروبية  على جمر القضية الفلسطينية”

 كتب الدكتور طلال خواجة اليوم في صحيفة النهار مقالة بعنوان : تقليب في أوراق اوروبية
 على جمر القضية الفلسطينية قال فيها:
زعمت اسرائيل ان بضع فلسطينيين من جماعة غوتيريش شاركوا في دعم طوفان حماس، فانتفض العرق الانكلو ساكسوني واعلن الحرب المالية على وكالة الامم المتحدة للاجئين ولحقهم اليابانيون و الجرمانيون و الطليان والقائمة تطول، بينما فضل الفرنسي ان يمسك العصا من الوسط.
والمؤسف ان تدمير مدارس ومؤسسات الامم المتحدة وقتل المئات من موظفيها في غزة بسلاح غربي و على يد جنرالات صهاينة جلهم من اصول غربية، لم تحرك النخب الغربية الحاكمة، رغم ان محكمة العدل الدولية قاربت القول في الحكم الاولي ان ما تقوم به اسرائيل في غزة هو حرب ابادة. وان الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا ضد اسرائيل لها اساس مع استمرار التدمير والقتل والاذلال والحصار والتهجير.
و للتذكير فان جنوب افريقيا قاد حركة تحريرها من الحكم العنصري الجوهرة نلسون مانديلا الذي جمعت جنازته معظم حكام وزعماء العالم، علما أنه لطالما اعتبر نضال شعبه مشابها لنضال الشعب الفلسطيني.
مجرد زعم اسرائيلي بمشاركة موظفين امميين مع حماس ادى لموجة من ردود الفعل الغربية مع شبه صمت “شرقي”، ما ذكرنا بالهستيرية التي اعقبت طوفان الاقصى. اما دعوى اتهام اسرائيل بالابادة من قبل أحباب مانديلا فلم تحرك جفنا من جفون بايدن والآخرين، بما فيهم ريشي سوناك الذي عانت بلاده الاصلية من العنصرية إبان السيطرة الكولونيالية البريطانية على الهند، حيث ابيد الملايين بالمجاعات و المناورات و زرع و إذكاء النزاعات بين الاعراق والاديان.
عرقلة الاغاثة الاممية تضمر رغبة اميركية برفع المسؤولية عن النكبات المتلاحقة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني والتي حولته لاجئا في بلاده المحتلة وفي دول الطوق، وفي غيرها من البلدان التي تتنشر فيها الدياسبورا الفلسطينية.
لن نكتشف جديدا في التمييز الفاقع في فلسطين. فالتمييز العنصري شكل سمة من سمات تشكل الامبراطوريات والامم على مر التاريخ، بما فيها الامبراطوريات العربية التي اتسمت عموما بالتسامح. الا ان النخب الأوروبية الحاكمة دفعت في مسار صعودها في القرون الماضية بالعنصرية الى مستوى الجينات والاشكال والالوان، كما تساوى تنكيلها بالطبيعة والارض، بنباتها وحيواناتها، بوحشيتهم تجاه الانسان طمعا و غرورا. فلا غرابة ان نسمع كبار المسؤولين في الكيان الصهيوني يشبهون الفلسطينيين بالحيوانات ويمارسون معهم نفس الوحشية التي مارسها الاوروبيون مع الشعوب الاخرى ومع بعضهم البعض في حروب السيطرة على شعوب وخيرات الكوكب، علما أن أجدادهم كانوا من أبرز ضحاياها.
والحقيقة فان معادلة القوي والضعيف في القرون القريبة الماضية لم تقتصر على الامبرياليات الغربية. فقد تمددت الصين نحو منشوريا التي احتلتها لاحقا اليابان بعد ان احتلت كوريا، وأطبق الروس على سيبيريا و على شعوب السهوب و اوراسيا، كما لم يقصر العثمانيون في التوسع قبل انهيارهم النهائي.
 لن نقلل من أهمية وقيم الثورات التي قامت في اوروبا، خصوصا الثورة البرجوازية الفرنسية التي أطاحت بالحكم الملكي الاستبدادي الذي افقر الفرنسيين وأصبح حجر عثرة امام تطور فرنسا الصناعي والاجتماعي بالمقارنة مع غريمتها إنكلترة التي استكانت للملكية الدستورية بعد ثورة كرومويل والحروب الأهلية والبرلمانية. لكن شعارات الثورة لم تمنع الجشعين البرجوازيين من استغلال الطبقة العمالية الفرنسية المتكدسة في المصانع والورش والأحياء الفقيرة، كما لم تمنع توسيع المستعمرات واستغلال شعوبها، حتى أن نابوليون قمع بوحشية ثوار الحرية في هاييتي الذين رفعوا شعارات الثورة الفرنسية ولقبوا باليعاقبة السود.
اما ثورة اليانكي بوجه الإنكليز المتزامنة مع الثورة الفرنسية فلم تكن ثورة استقلال بالمفهوم الكلاسيكي، بقدر ما حسمت صراعا سلطويا بين نخب الانكلو ساكسون في ضفتي الاطلسي. هذا الصراع عكس التطور الاقتصادي و الاجتماعي و الديمغرافي الكبير في العالم الجديد الذي باتت تعيقه السيطرة السياسية البريطانية المباشرة من لندن. و كان من الطبيعي ان تلقى النخب الامريكية الصاعدة التأييد من النخب السياسية والثقافية والاقتصادية وحتى العسكرية الفرنسية، حتى أن لافايات قاتل شخصيا مع جورج واشنطن. وستنتقل لاحقا الراية الغربية والامبريالية نحو القطب الاميركي القوي، علما واقتصادا وعسكرا وحتى نظاما سياسيا.
تابعت الرأسمالية الاوروبية المتكونة مع الثورة الصناعية النهش في أجساد الشعوب الأخرى في المستعمرات، كما في أجساد طبقاتها العمالية والمهمشة والتي بالكاد كانت تحصل على فتات من النهب الاستعماري، فالجنة جميلة لمن يرث مفاتيح حدائق عدن فيها.
فبينما كان المفكر الألماني كارل ماركس يبحثً في منفاه اللندني بما اسماه الارهاب الرأسمالي و يقارع افكار مواطنه العنصري جورج هيغل، كان رفيقه انجلز يرى بالعين المجردة تعاسة الفئات المستغلة و المهمشة في مصانع مانشستر، ما دعاهما الى أن يناديا معا في البيان الشيوعي سنة ١٨٤٨ “يا عمال العالم اتحدوا” ليشكل هذا الشعار رافعة الصراع السياسي و الطبقي والثقافي في اوروبا، ثم ليتكئ عليه لاحقا لينين وتروتسكي ورفاقهما في الثورة الروسية البلشفية في ١٩١٧ والمتحولة مع حملة التحديث القسرية الهائلة لرأسمالية دولة بقيادة الرهيب ستالين. و لتنتقل بعد ذلك الصراعات السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية في أعقاب هزيمة المانيا النازية نحو آفاق جديدة، خصوصا مع النهوض الصيني السياسي مع ماوتسي تونغ و ما تبعه من نهوض اقتصادي هائل مع خلفائه.
الغرور والاستعلاء العرقي والثقافي لم يكن المانيا فقط، رغم انه ارتفع مع هتلر وأتباعه لمستوى مرضي.
النخب الأنجلوساكسونية كانت أكثر نفاقا ودبلوماسية، ومع ذلك فلم يقصروا في التصريحات المقززة كتصريح رئيس جامعة هارفرد ادوارد افريت في ١٨٤٨ الذي قال : “العرق الانكلو ساكسوني الذي تحدرنا منه نحن الاميركيين لا يعلوه اي عرق آخر”، طبعا لم يفكر في السكان الاصليين الذين أذاقهم عرقه الأمرين.
بنجامين دزرائيلي وضع انكلترا ما فوق اوروبا، ولو أنه وضع تصريحه سنة ١٨٦٦ في اطار الانجاز والتقدم والسيطرة في الهند وفي ما وراء البحار.
في ١٩٠٧ قام النائب والكاتب ونستون تشرشل بزيارة لمناطق شرق افريقيا، فوصف جمالها و خصوبتها وامكانية تحويلها الى باسكيت غذائي استوائي لاوروبا، وليس لشعوبها الذين اختفوا بالكامل من سردية زيارته. وبعد سنة ونصف زار هذه المناطق  بنجامين روزفلت فقال: “هذه البلاد الجميلة يجب ان تكون للرجل الابيض، فلنملأها بالمستوطنين البيض”.
بعد عشر سنوات اصدر لورد بلفور بيانا عن الحكومة البريطانية دعا فيه الى اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مشيرا الى ضرورة الحفاظ على الحقوق الدينية والمدنية لغير اليهود. ما هذا الكرم! الأكثرية الساحقة المسلمة والمسيحية من أصحاب الأرض  تتحول الى اقليات لا حقوق سياسية لها. إنه الدهاء الانكليزي. التخلص من اليهود الاوروبيين وتشجيع هجرتهم الى فلسطين، في سياق تمكين السيطرة الكولونيالية على المنطقة الغنية بالنفط والتاريخ والجغرافيا. ربما كان هذا الكرم وراء رسالة الكاتبة غرتراد بل، زميلة لورنس العرب، لوالدها حول العطاء البريطاني لشعوب المنطقة الذي قابله كثر بالجحود!
 لا نرغب بأن تغطي هذه الصورة البشعة للغرب على الأنجازات الكبيرة للحضارة الغربية، خصوصا على صعيد العلوم والطب والاقتصاد والفنون كما في التقدم الاجتماعي و الحقوقي والدستوري.
و في الواقع فقد شهد النسيج الاجتماعي الاوروبي في العقود الأخيرة تغيرا كبيرا، لجهة التنوع العرقي والديني والثقافي. وهو ما انعكس في مؤسسات البنى الفوقية بما فيها البلديات و البرلمانات و الوزارات و رئاسة الحكومة كما في حالة بريطانيا. حتى أن الملك  شارل الثالث أعلن ان بريطانيا دولة متعددة الاديان. ولا نقلل من أهمية انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة حتى لو كان أدائه الخارجي كارثيا علينا.
 ربما نحن اللبنانيون العرب، الاكثر قدرة على فهم هذا التغيير، لاعتبارات كثيرة يختلط فيها التاريخي بالجيوسياسي بالثقافي بالاجتماعي، حيث تمتاز خلطتنا بتنوع فريد ونادر، ساعدنا بأن نكون جسرا بين الحضارات، وان اصبح هذا الجسر حاليا ممرا للوحوش الكاسرة نتيجة التحولات الكبرى في المنطقة وفي العالم. ولذلك نستشعر الاخطار من التغييرات العكسية التي تشهدها الجارة الاوروبية حيث يخترق التطرف بناها السياسية يمينا ويسارا مع توحش النيو ليبرالية و تفاقم أزماتها الاقتصادية. و حيث يصعد اليمين الشعبوي مستحضرا الذخيرة العنصرية الاستعلائية التي ظننا انها دفنت مع تقدم الاتحاد الاوروبي و انهيار نظريات صدام الحضارات ونهاية التاريخ.
 اين اوروبا ديغول و شيراك من الذيلية المهينة للولايات المتحدة التي تطبع معظم المواقف الاوروبية حيال مذبحة غزة و حيال التنكيل الاستيطاني في القدس و الضفة وحيال معظم قضايا العالم؟ دعك من المناشدات الاميركية و الاوروبية للمهووسين الاسرائيليين في تخفيف عدادات القتل والتدمير والتهجير! إذ لا يعقل ان يستاء سفاح يوركشير من ارتفاع نسبة الجرائم. والمؤسف أن المذبحة تتلازم مع صمت صيني وخبث روسي و تلاعب ايراني وانكفاء تركي، وقلق عربي. فلكل عداده الخاص.
والشيء بالشيء يذكر في مناشدة نتنياهو بالموافقة على حل الدولتين وهو الذي بنى سرديته السياسية على الاستيطان وتدمير اسس اتفاق اوسلو وحل الدولتين،
و الذي اثبتت الاحداث التي تلت عملية الطوفان، على هولها، انه لا أمن ولا استكانة في المنطقة بدونه وهو ما يتطلب من الغرب مواجهة الرفض الاسرائيلي لا ترجي قادته الموتورين ودعمهم تسليحيا وحماية اجرامهم في المحافل الدولية وفي الإعلام، وصولا لكم الافواه. كما يتطلب من العرب المزيد من التواصل والتبصر والتفكر والمبادرة لايجاد توجه سياسي و عملي مشترك لمواجهة الاخطار الداهمة عليهم، دولا وشعوبا وخيرات في مرحلة هي الأخطر منذ النكبة.
واستطرد لأقول إن استمرار التظاهرات الحيوية الواسعة في مدن أوروبا و الغرب عموما، سواء ضد الشعبوية والعنصرية والليبرالية المتوحشة، بما فيها حراكات “حياة السود مهمة” التي أشعلت الشباب الغربي بكل ألوانه و فئاته، سواء من أجل وقف حرب الابادة في فلسطين وانشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة، تصب جميعها في الدفاع عن ما أنجزته جارتنا أوروبا في سياق تخلصها من ماضيها الاستعماري.
 وإذ أتذكر صور الصبية الاوروبية التي رفعت شعار Palestine nous libérera  والشباب اليهود الذين كتبوا على ظهورهم «not in our name » ارى ان القضية الفلسطينية كانت وعادت لتكون قضية عالمية لا يمكن الهروب من جمرتها.
زر الذهاب إلى الأعلى