مقالات

كرم :تسوية ما بعدَ بعدَ غزّة

مقالة عضو كتلة الجمهورية القوية النائب فادي كرم في نداء الوطن ضمن مساحة حرة تحت عنوان “تسوية ما بعد بعد غزة”

بعد الحرب، يأتي سلم، وقد يكون سلماً حقيقياً، بلا رابح وخاسر، فيُحقّق تسويةً لصالح جميع الأطراف المتحاربة، وقد يكون أيضاً، سلماً بغلبةٍ لفريقٍ على آخر، وتنتج عنه تسوية يتفوّق فيها الرابح ويتهمّش فيها الخاسر. هذه نتائج الحروب اجمالاً، اذ أنّها تُعدّ وسيلةً لتغيير واقعٍ ما، أو ستاتيكو ما، وصولاً إلى تسوياتٍ جديدة، أو حتى، إلى تكريس احتلالٍ ما أو الغاء لفئةٍ ما.

ولكن في حالة حرب غزّة، هناك ما بعدَ بعدَ الحرب، أي أنّ هناك تسوية ما، يُعمل عليها، وهي ما بعدَ بعدَ تسوية غزّة، وهي تسوية مُرتبطة حكْماً بحسابات القوى الاقليمية المُتصارعة والمُتشابكة والمُستغلّة في الوقت ذاته للحرب بأجساد الغزّاويين، وتتمحور قضاياها حول توزيع النفوذ والغلّة التي من الممكن تحقيقها بعد وقف الدمار والقتل، وتتدوزن مواجهاتها بخطوط حمر تمنع التصادم المباشر في ما بينها، فتستخدم الوكلاء المحلّيين الغوغائيين، لاتمام الحرب والمواجهات العسكرية.

مع اندلاع حرب غلاف غزّة، استطاعت حركة «حماس» مفاجأة جميع المراقبين، بقدراتها على خرق الدفاعات الاسرائيلية، بنجاحٍ لم تتمكّن أي قوة عربية من قبل، أي منذ نشأة دولة اسرائيل، من انجازه، وتبعاً لذلك، توقّع جميع المراقبين، بما يعرفونه عن قادة اسرائيل، ردّاً قاسياً واجرامياً وتدميرياً، من قبل الجيش الاسرائيلي، وهذا ما حدث بالفعل.

ولكن التوقعّات بأن النظام الايراني سيضطر لفتح النار من كافة الجبهات التي يُسيطر عليها من خلال اذرعه الاستراتيجية، تضامناً مع «حماس»، ودعماً لجبهتها، وبالطبع من ضمن ذلك، الجبهة اللبنانية، المُلحقة قسراً باستراتيجية وحدة الساحات الثورية الاسلامية الايرانية، لم تُصِب، فأتت الصدمة كبيرة، وبشكل خاص لحركة «حماس»، وتبيّن لها بأن ما يعنيه الحكم في طهران من مفهوم وحدة الساحات، هو أن تقوم ساحة بدفع الاثمان الغالية من دماء شعبها وأرواحهم، ومن بنيتها التحتية ومساكنهم، وأن تقوم ساحة أخرى بمساندة الاولى، بتأنٍّ كي لا يؤدّي تحريكها إلى حربٍ شاملة، وأن تقوم ساحةً ثالثة، برمي الصواريخ الباليستية غير المؤثّرة، وبخطف السفن التجارية. وخلف كل ذلك، أن تقوم قيادة هذه الساحات بالتفاوض مع الدول الكبرى والاقليمية لنيلها أثمان التعقّل، بتسوية، ما بعدَ بعدَ تسوية غزّة.

مهما كانت النتائج المترتّبة عن الحرب الدائرة في غزّة، فما بعدَ الدمار والخراب والقتل والاجرام، غير ما قبله، وها هو عنصرٌ آخر مزعج لاسرائيل، على وشك الزوال، أو على الاقلّ، الاخضاع والتحييد، بعدما تمّ، بفضل السياسات الايرانية التوسّعية، التخلّص من الخطر العراقي بإشغاله بانقساماته، والجبهة السورية الاستراتيجية بإدخالها بحروبها، والاقتصاد اللبناني بالتسبّب بانهياراته وأزماته. إنّ المسار الذي سيأخذه النظام الايراني سيُحدّد نوعية التسوية التي تُنتظر ما بعدَ بعدَ غزّة. فإمّا يختار المسار التفاوضي والاندماجي، أو المسار التراجعي والانعزالي. وفي كلتا الحالتين، المشروع التطبيعي الاسرائيلي مستمرّ نحو الدول الخليجية، ولذلك، على الأنظمة التي تدّعي المُمانعة وتعتمد الغوغائية، أن تُراجع حساباتها، بالنظر بدقّة وتجرّد نحو التاريخ القريب، لتستدلّ بأنّ المسار الحربوي التسلّحي الذي اعتمدته على مدى السنوات الماضية، قد أودى باقتصاديات شعوبها وبالقضية الفلسطينية معاً، إلى الهلاك والتقهقر. وتبعاً لذلك، فإن استمرار النظام الايراني، بأعماله التخريبية في دول المنطقة، وبتدخلاته الايديولوجية وتبنّيه لدويلاتٍ رديفةٍ للدولة، سيستكمل تقديم الخدمات الثمينة للمشروع الاسرائيلي التوسّعي الاقتصادي، الذي لن يتراجع عن مخطط ربط اقتصاده وشركاته وجامعاته ومجتمعه مع المجتمعات الخليجية الغنيّة.

إنّ تسوية ما بعدَ بعدَ غزّة قد بدأت معالمها تتكشّف، من خلال المفاوضات التي تجري تحت عناوين مختلفة، منها، تهدئة الساحات، ومنها، عدم توسيع الحرب، ومنها هدن انسانية، وها هم الموفدون الدوليون يصلون إلى المنطقة ولبنان، لتفعيل القرارات الدولية والاممية، وخاصةً القرار1701، أو شبيهه، الذي إن تم احترام بنوده بشكل مُجتزأ، فسيؤدّي ذلك إلى ضبط الحدود الشمالية لاسرائيل، وإلى دفع السلاح غير الشرعي إلى الداخل اللبناني. وبما أنّ الارادة الدولية، المُلائمة للأهداف الاسرائيلية، هي بالضغط على قيادة وحدة الساحات، في طهران، لتقديم ساحةٍ من ساحاتها وراء اخرى، للتسويات وللحلول، إن ما قبلَ الحروب أو ما بعدَ الحروب، وادخال القوى الاقليمية في تسوياتٍ تُريح ادارات تلك الدول الكبرى، والمشاريع الاستثمارية في المنطقة، وبما أنّ الدعوة لعدم توسيع الحرب، لا تقتصر أهدافها على الأمور الانسانية، بل تحمل في مضامينها تسوياتٍ كبرى. فما على الجبهة السيادية اللبنانية الا أن تطالب بتطبيق كافة مندرجات وبنود القرارات الدولية، أي 1701 بكل بنوده وخاصةً ما أتى في القرار ببنده الثالث القاضي بضرورة بسط الدولة اللبنانية سلطاتها على كافة الاراضي اللبنانية تبعاً للقرارين الدوليين السابقين، أي 1559 و1680، كما البند 12 من القرار المذكور، بضرورة أن تُلبّي القوى الأممية حاجات الجيش اللبناني كافة لتمكينه من بسط سلطاته على كافة الاراضي اللبنانية من دون وجود لأي سلاح آخر غير شرعي، حكماً، وعلى هذه القوى السيادية، أن تقف سدّاً منيعاً بوجه كل محاولات تقديم لبنان كجائزة ترضية، لحزبٍ هدّد يوماً بما بعدَ بعدَ حيفا، وانتهى الآن بتسوية ما بعدَ بعدَ غزّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى