مقالات

من هاتنغتون وفوكوياما الى فرنكوبان واليزابيت طومسون

كتب الدكتور طلال خواجة في صحيفة النهار مقالة تحت عنوان :”من هاتنغتون وفوكوياما الى فرنكوبان واليزابيت طومسون” جاء فيها:

كنا نشارك باحتفال كرنفالي في الهواء الطلق في باترسي بارك في لندن ذات يوم ربيعي جميل في ٤ حزيران ١٩٨٢. وكنا قد دعينا من قبل المنظمين في راديو لندن المستقل IRL كلجنة PLSC أي حملة مساندة فلسطين ولبنان. وكانت هذه اللجنة تختصر سابقا ب PSC قبل ان يحولها ناشطون لبنانيون ل PLSC لما كان للقضية الفلسطينية من اهمية في الشارع البريطاني الذي يحتضن جالية عربية، خصوصا فلسطينية كبيرة. والتأييد للقضية الفلسطينية كان يمتد وان بدرجات متفاوتة حتى داخل الاستبلشمنت بمنوعاته السياسية، فتجد انصار فلسطين وطبعا انصار اسرائيل في كل الاحزاب تقريبا، بما فيها داخل حزب المحافظين، مع تجذر اكبر واعمق واكثر امتدادا وحيوية في دعم القضية الفلسطينية داخل الاحزاب والمكونات والمجموعات اليسارية الهوى. حتى ان لجنة PLSC كانت تعقد بعض اجتماعاتها في احدى قاعات مبنى مجلس بلدية لندن الكبرى GLC ، وهو المبنى المواجه للبرلمان البريطاني على الضفة الاخرى لنهر التامز. كان هذا التأييد يتساوى او يسبق احيانا دعم المؤتمر الوطني الافريقي وزعيمه المسجون منديلا ضد دولة الابارثايد في جنوب افريقيا. وكان الاوربيون والفرنسيون خصوصا، حريصون على سلامة القائد الفلسطيني ابو عمار، رغم الانحياز الاجمالي لاسرائيل التي استفادت ايضا من احتضان و تأييد مطلق من الولايات المتحدة الاميركية. كانت مارغريت تاتشر قد افتتحت مرحلة النيو ليبرالية في التحول الاقتصادي في بريطانيا، مع ما سيحمله من تحولات في العلاقات والبنى الاجتماعية والثقافية والحزبية والسياسية والفكرية. وذلك بموازاة هزيمة كارتر وصعود الجمهوري رونالد ريغان في الولايات المتحدة الاميركية بمساندة من اية الله الخميني عبر تأجيل اطلاق المحتجزين الاميركيين لما بعد انتخابات الرئاسة. لكن GLC الذي يدير شؤون العاصمة البريطانية كان في قبضة القيادي اليساري الشاب في حزب العمال كن ليفنستون المدعوم من الزعيم التاريخي للجناح اليساري في الحزب طوني بن. والراحل بن تتذكره، الى جانب جيلنا، اجيال عربية متوسطة العمر ايضا، حين سيحاول في سنة ٢٠٠٣ اقناع الديكتاتور العراقي الراحل صدام حسين بمغادرة العراق، عله يفوت الفرصة على جورج بوش الابن ومسعوريه من المحافظين الجدد، رامسفيلد وتشيني وباول، و صاحب البسمة الانكليزية الماكرة طوني بلير بتدمير العراق بعد حصار وتجويع وقتل الملايين من شعبه في اعقاب عاصفة الصحراء الكويتية التي قدمها صدام لبوش الاب على طبق من فضة حين احتل الكويت في لحظة تهور سياسي قاتل. كانت الحملة الأميركية المسعورة ضمن شعار “الحرب على الارهاب” قد انطلقت بعد “غزوة ايلول المتوحشة” لزعيم القاعدة اسامة بن لادن لامريكا والتي كان من أسوأ تداعياتها انفلات البطش الشاروني على الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وانتعاش احلام الجمهورية الاسلامية في ايران ومجموعات المعارضة الشيعية العراقية الموالية لها، خصوصا بعد غزو العراق وتدمير وتفكيك جميع مؤسساته الحيوية بدءا بالجيش العراقي وصولا لاصطياد العلماء العراقيين، مرورا بنهب المتاحف وغيرها من اسانيد الذاكرة العراقية. بالعودة للاحتفال، فجأة تتوقف الموسيقى في ارجاء البارك ويعلن الراديو خبر اطلاق النار على السفير الاسرائيلي في لندن شلومو ارغوف والذي سيشكل اغتياله ذريعة للحرب الاسرائيلية التدميرية الواسعة على لبنان في اليوم التالي بقيادة ارييل شارون.
هذا العدوان الوحشي والذي وقع بعد وقف اطلاق نار احترمته منظمة التحرير الفلسطينية، سيؤدي إلى خروجها من لبنان، نزولا عند رغبة الاهالي بعد ثلاثة اشهر من المقاومة الفلسطينية واللبنانية الباسلة ولكن العالية الكلفة، وبعد حصار همجي طويل لأم الدنيا بيروت التي فشل الجنرالات الاسرائيليون في اقتحامها. و قد عاد شارون واحتلها بعد خروج المقاتلين الفلسطينيين منها رغم وعوده الكاذبة لفيليب حبيب، وذلك في اعقاب اغتيال الرئيس الكتائبي المنتخب بشير جميل، وحينها ولدت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي.
ادى العدوان الاسرائيلي وحصار العاصمة اللبنانية الى رود فعل مدينة و مستنكرة في ارجاء الكوكب، خصوصا في اوروبا التي تحسنت نسبيا علاقاتها بالشعوب العربية والشعب الفلسطيني استنادا لبعض القيم التي باتت تعتمدها، خصوصا في الاتحاد الاوروبي وبتأثير فرنسي واضح، فتميزت في موقفها عن الولايات المتحدة بعد عقود من الاستعمار الكولونيالي والانحياز الاعمى الى الكيان الاسرائيلي الذي تأسس برعاية و دعم اوروبي واميركي على اوجاع والام و تشريد الشعب الفلسطيني، و بسردية صهيونية تلاءمت مع المصالح الرأسمالية الكولونيالية في منطقتنا العائمة على التاريخ والجغرافيا والاديان وابار النفط، معطوفة على عقدة الذنب من اضطهاد اليهود وصولا لسوقهم الى المحارق مع اعراق وفئات أخرى. هكذا وجدنا حتى مارغريت تاتشر نفسها اضطرت للقول ان مشاهد القتل والتدمير الاسرائيلي مقززة. وفي لقاء رتب على عجل بين كريم مروة الخارج لتوه من الحصار ورئيس GLC كن لفنستون، جلس كن على ارض الغرفة بتواضع قائلا انه في حضرة مقاوم. وقد ادت مجزرة صبرا وشاتيلا المروعة التي هندسها شارون الى استنكار عالمي وحتى إسرائيلي، وإلى حضور قوات اميركية وفرنسية وايطالية الى لبنان لحماية المدنيين العزل، قبل ان تعود فتنسحب بعد هجمات قاتلة عليها هندستها ايران الطامحة الى تعبئة الفراغ صمن استراتيجية الأذرع المزروعة في المنطقة عن طريق الانقسامات المذهبية، ثم ليدخل لبنان في مسلسل لا ينتهي من حروب التحرير والحروب الحامية والباردة ولينتهي به المطاف تحت الاحتلال الايراني بواسطة حزب الله بعد ان تحرر من الاحتلال الاسرائيلي سنة ٢٠٠٠ و بعد اخراج القوات السورية سنة ٢٠٠٥ في انتفاضة الاستقلال الثاني.
نحن الان على بعد اكثر من ٤٠ عاما من الحرب الاسرائيلية على لبنان واكثر من عشرين عاما من الحرب الاميركية على العراق. و نحتاج لمجلدات لتعبئة الاحداث والحروب والانتفاضات والكوارث والتحولات الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية والفكرية التي عصفت في العالم، فضلا عن التحولات في العلاقات والصراعات والمنافسات والتكتلات الدولية. فقد تحطم جدار برلين، ثم انهار الاتحاد السوفياتي وتغيرت الخريطة السياسية والدولية باتجاه القطب الاميركي الاوحد. ورغم انقشاع نور التحرر الديمقراطي في اوروبا الشرقية، الا انه ترافق مع بداية صعود اليمين الاوروبي الشعبوي على ارضية النيو رأسمالية واقتصاد السوق والعولمة المعززة بالثورة الرقمية الصاعدة، فضلا عن معاداة الهجرة.
اصدر فرانسيس فوكوياما مزهوا كتابه نهاية التاريخ ثم نشر ملهمه صموئيل هانتنغتون كتابه العنصري صراع الحضارات وعادت اوروبا لتنضوي اكثر تحت المظلة الاميركية. وبينما ساهمت اروروبا واميركا بكسر نظام الابارثابد على صخرة مانديلا والمؤتمر الافريقي الوطني، فشلتا او لم ترغبا في زحزحة النظام العنصري في فلسطين رغم اتفاق اوسلو ومشروع حل الدولتين. بل تم اغتيال رابين ولاحقا عرفات وقاد اليمين الصهيوني الديني والقومي حملة قمع وتنكيل واستيطان غير مسبوقة في القدس والضفة وحاصر القطاع وهمش السلطة الوطنية واضعا الزيت في عجلة التطرف الديني ومشجعا الانقسام الفلسطيني، خصوصا بعد ضرب الانتفاضة الثانية وادارة الظهر لمبادرة الأرض مقابل السلام الذي اقرته قمة بيروت العربية سنة ٢٠٠٢ والتي عاداها المتشددون من كل الجهات.
لم تدم سكرة نهاية التاريخ الاميركية طويلا، فمع بداية الالفية الجديدة بدأت نبوءة ألان بيرفيت المبكرة تتحقق، اذ نهضت الصين فاهتز العالم. و بدأت النيو راسمالية تترنح رغم ان الذكاء الاصطناعي فتح افاقا جديدة، فوقعت ازمة البنوك في ٢٠٠٨ بدءا من قلب وول ستريت وقصمت ظهور الكثيرين في اميركا واوروبا وغيرهما. ثم عاد الدب الروسي للرقص المدوي في حلبات تششنيا وجورجيا واوكرانيا وسوريا، حيث ساهم مع ملالي ايران و ميليشياتها المذهبية بانقاذ الدكتاتور السوري الدموي من شعبه المنتفض ضمن دومينو الربيع العربي الرائع، ولكن المدمى و المتعثر، وبتسهيل حتى من باراك اوباما اللاهث لاخراج السلاح البيولوجي من سوريا حماية لاسرائيل ولعقد الاتفاق النووي مع ايران على حساب العرب و المشرق العربي والذي يكاد يتحول الى انقاض سياسية.
فوكوياما وهانتنغتون حاولا الاستدراك حين رأيا أن التاريخ أكمل مساره ولم يتوقف منذرا بالاسوء. ومع اعلان شي جي بينغ مشروع الحزام و الطريق، ظهرت رائعة بيتر فرنكوبان “طريق الحرير ، تاريخ جديد للبشرية” والتي اظهرت تواصل وتلاقح وتكامل الحضارات، رغم المواجهات والمنافسات الامبراطورية على مر التاريخ ورغم “هويات امين معلوف القاتلة”. وهو ما عاكس السردية الاستعلائية الغربية للتاريخ. و ظهرت ايضا ملحمة تيم ماكنتوش “العرب، ثلاث الاف سنة من القبائل والشعوب والامبراطوريات”، كما برزت مؤلفات يوفال نوى حراري التي استقرأت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والانسانية مع تقدم الذكاء الاصطناعي، وهو الاعلم بأخطار pygasos spyware الإسرائيلي.
الذعر، الجنون، الهستيريا، الغطرسة، الانحياز الاعمى، محاكم التفتيش، انتي عرب، انتي فلسطين، انتي انسانية، كلها جائزة الوصف عن رد فعل الغرب على عملية حماس الدراماتيكية وحتى السوريالية، وعن تقاطر زعمائه، بدءا من sleepy Joe وصولا
لopportunist Macron عند نتانياهو الذي يكرهونه جميعا، وقد عرض الكيان “اليهودي”المدلل والمدجج للإذلال. فنتانياهو كان منصرفا مع زملائه العنصريين في حكومة الأبارتايد للاستيطان و التنكيل بالفلسطينيين، كما للمناورات والتلاعب بالاسرائيليين، ومع ذلك فقد تركوا له “فضيلة الانتقام” واعادة الثقة عبر الفتك بالشعب الفلسطيني، معتبرين تدمير مدنه وتهجيره وربما ابادته يقع ضمن “حربهم على الارهاب”.
يحزنني شخصيا ان تسقط اوروبا الرسمية في الحفرة التي يعلن منها بايدن ان مقتل طفل عربي على يد امريكي أبيض هو جريمة كراهية، بينما يعتبر تدمير البيوت فوق رؤوس آلاف الأطفال بسلاح امريكي في غزة هو دفاع عن النفس. و يعزيني بان اوروبيين كثر وامريكيين كثر بينهم يهود كثر، لم يتوقفوا عن التظاهر من اجل وقف المذبحة في غزة و التنكيل والقتل في الضفة.
و مع انني لست من انصار نظرية المؤامرة والتهرب من المسؤولية، خصوصا ان بعضنا ما زال يتأرجح بين خيمة القبيلة وناطحة السحاب، الا انني استغرب مبالغة بعص المثقفين العرب في محاكاة الطروحات التي تعكس الصورة، فتضع الضحية والجلاد في سلة قيمية واحدة. عل هؤلاء يسمعون غوتيريش حين يقول ان عملية حماس لم تأت من فراغ. وعلهم يقرؤون مؤلف اليزابيت طومسون “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب” وهو الوثيقة الدامغة التي تثبت كيف ان فرنسا وبريطانيا افشلتا في بلادنا، وبالقوة الغاشمة كما بالخداع والنفاق، محاولة التحديث والدمقرطة على اساس الحرية والعدالة وتقرير المصير التي قام بها الليبراليون العرب والمسلمون الاصلاحيون الذين توحدوا على هذا الهدف في اعقاب هزيمة الدولة العثمانية، فساهمتا عمليا بصعود الديكتاتورية والاسلام السياسي، وذلك من اجل النفط و توزيع الغنائم الكولونيالية الباردة.
مرة جديدة، العرب في مجهر الجميع من خلال فلسطين المنكوبة. ذنبهم ان جغرافيتهم السياسية والاقتصادية والثقافية جاذبة، كما تاريخهم الغني و المثير للبحث والجدل، كما وصفه المستعرب تيم ماكنتوش من منزله في صنعاء. النار في ارديتنا جمبعا من المحيط للخليج، فكيف سنطفئها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى