متفرقاتوفيات

د. خواجة:”شبيب دياب يلتحق بقافلة  “اخر الرجال المحترمين”

كتب الدكتور طلال خواجة اليوم في صحيفة النهار مقالة تحت عنوان “شبيب دياب يلتحق بقافلة  “اخر الرجال المحترمين”.

جاء فيها: لم استغرب  صفات الود والبساطة والطيبة التي لمستها في شبيب دياب حين تعرفت عليه في اوائل التسعينيات، عندما احتضنتنا الهيئة التنفيذية الاولى لرابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية بعد تفريع هذه الجامعة كثمن باهظ من اثمان الحرب الاهلية التي اندلعت في نيسان ١٩٧٥ وشطرت العاصمة الجميلة بيروت شطرين متباعدين. وكانت هذه الاداة النقابية المتجددة قد خرجت من رحم حراك اكاديمي وجامعي واسع، لعبت فيه قيادة الرابطة التاريخية والمنتخبة في اوائل السبعينيات دورا رئيسيا في هذا الحراك. شكلت القيادة التاريخية جسرا اكاديميا ونقابيا وأخلاقيا متينا، عبر عليه الاف الاساتذة الطامحين لاعادة النبض للحياة الاكاديمية في الجامعة اللبنانية الخارجة من اتون العواصف الاهلية. هذه الجامعة عمل لها و ناضل من اجل انشائها ودافع عنها وحماها اللبنانيون بنسيجهم المتنوع على مدى عقود برموش العيون حتى اصبحت صرحا اكاديميا وثقافيا ووطنيا كبيرا، نافس الجامعات العريقة في لبنان واكسب خريجيها المتفوقين مكانة مرموقة في الجامعات الكبيرة في العالم المتقدم.

هذه الصفات التي تمتع بها النقابي والاكاديمي الراحل شبيب دياب ابن بلدة شمسطار  البقاعية، يمكنك ان تلمسها اينما حللت في قرى وبلدات ومدن البقاع حيث تتناغم الطبيعة مع الاهالي وترسم على وجوههم بسمة وحرارة ظاهرة تساعدهم على تحمل صعوبات الحياة والام البلد المصلوب والمقهور من قبل سلطة فاجرة وفاسدة ومتواطئة مع فائض القوة المدججة.
رحل الاستاذ العصامي، الهادئ والمتفاني، بعد ان اجهده العمل النقابي المتواصل دفاعا عن حقوق وكرامة قدامى اساتذة الجامعة اللبنانية الذين اولوه ثقتهم وانتخبوه رئيسا لرابطتهم بعد ان صقلته التجارب في رابطة الاساتذة المتفرغين
 وفي مجلس الجامعة وفي الاهتمام بصندوق التعاضد وفي كثير من الجمعيات المدنية والانسانية والاجتماعية حيث عمل مع مطران الفقراء غريغوار حداد ومع النحدة الشعبية. وفي الواقع فقد كان الراحل يدافع عن كرامة جميع المتقاعدين الشرقاء والنزهاء الذين افنوا معظم سنوات عمرهم في بناء وخدمة ادارات ومؤسسات وصروح الدولة اللبنانية. هذه الكرامة التي يجري محاولة اذلالها ومسحها من قبل ثلاثي التوحش في السلطة السياسية والنقدية و في المصارف.
وكما شكلت رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية احدى اهم رافعات هيئة التنسيق النقابية الثورية التي تأسست في التسعينيات وواجهت سياسة القمع والاحتواء ابان صعود النظام الامني السوري اللبناني، فان رابطة قدامى الاساتذة قد شكلت تحت قيادة رئيسها الراحل عمادا رئيسيا في هيئة تنسيق روابط المتقاعدين والتي تواجه محاولة السلطة استضعاف هؤلاء المتقاعدين واظهارهم وكأنهم يشكلون عبئا اضاقيا على الاقتصاد المنهار. وفي الحقيقة المجردة فإن المتقاعدين كانوا قد دفعوا ثمن تقاعدهم طيلة حياتهم المهنية عن طريق الاقتطاع المباشر لنسبة من الراتب، وطبعا دفعوها بالليرة حين كانت الليرة تحكي على ما يقال. كما أن مدخراتهم وودائعهم وقروشهم البيضاء التي حفظوها للأيام السوداء يجري الاجهاز عليها من قبل الثلاثي المتوحش بكل الوسائل الدنيئة، بما فيها السرقة المباشرة التي يتفنن بابتداع ابوابها معظم بنكرجية المصارف دون اي رقابة او رادع او معارضة.
لم يكتف شبيب دياب بحمل راية المتقاعدين اللبنانيين فقط، بل مد يده لالتقاط راية المتقاعدين العرب و لاعلاء وابراز قضية التقاعد عموما، وساهم مع رفاقه بترتيب وتنظيم وعقد المؤتمر الثاني للمتقاعدين العرب في الدامور بمشاركة  ًودولية في آخر يوم في حياته، لذا نعاه رفاقه في الرابطة بقولهم ان  د.شبيب ناضل حتى الرمق الأخير. وبهذا المعنى فهو شهيد من شهداء قضية التقاعد والكرامة الانسانية.
 قضية التقاعد في العالم هي من القضايا الاجتماعية التي شكلت محورا سياسيا واقتصاديا وحتى اكاديميا، حيث ان ادارة صناديق التقاعد حفزت انشاء فروع خاصة في دراسة التأمين وادارة الاعمال في الدول المتقدمة. وقي لبنان كان الاقتطاع الشهري من رواتب القطاع العام يدخل في الدهاليز المالية، عوض ان يدار بشكل مستقل ضمن صندوق و محافظ مالية، كما ان صناديق التقاعد والتعويضات في النقابات التعليمية والمهنية قد دخلت في غياهب القطاع المصرفي المتداعي رامية نخبا واسعة من الطبقة الوسطى على رصيف الحاجة. اما اموال وموضوع الضمان فتلك قصة أخرى لا تكفيها بضعة اسطر.
بدأ الراحل العصامي حياته المهنية عنصرا في الدرك، وقد اخبرني بانه خدم في مدينتي طرابلس في الفرقة ١٦ ذات الشهرة الخاصة آنذاك ما أضاف نكهة من الفيحاء إلى خلطته الطيبة، قبل ان يتابع لاحقا دراساته الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية ومن ثم دراساته العليا في الخارج ويتفرغ في الجامعة اللبنانية زميلا لكبار الأساتذة في الكلية.
لم يكن الراحل من جيل وبنية الأساتذة الرومانسيين القدامى الذين شكلوا طلائع الحركة الاكاديمية والثقافية في الجامعة اللبنانية ممن تحلقوا حول حسن مشرفية او حول نزار الزين او حول احمد بيضون ووضاح شرارة وغيرهم من الاساتذة البارزين. وهؤلاء ومريديهم كنت قد

اطلقت عليهم مجازا في بعض مقالاتي في التسعينيات صفة “اواخر الرجال المحترمين”. هذا الشعار اخذته من فيلم “اخر الرجال المحترمين” من تمثيل القدير الراحل نور الشريف والذي يلعب فيه دور مدرس من الزمن الرومانسي يواجه ازمة انسانية في الزمن الفاجر وفي مدينة عملاقة تتقلب فيها الناس فوق بعضها كتقلب حبات الرمل في ساعة العرب الرملية، على ما يصف نزار قباني في احدى تجلياته النقدية للواقع العربي بعد خفوت المحاولات النهضوية والحداثية تحت وطأة الصراعات القبائلية والغزو الكولونيالي وصعود الديكتاتورية والتطرف الديني.

قبل انتخابه رئيسا لرابطة قدامى اساتذة الجامعة اللبناني في السنة الماضية، كان د شبيب مقل في الظهور الاعلامي( keeping low profile )، رغم انخراطه  الواسع والدائم والفعال على مدى عقود في العمل المدني والنقابي والاجتماعي والاكاديمي، حيث انتخب مرارا في الهيئات القيادية  لرابطة الاساتذة ومجلس الجامعة وغيرها من المؤسسات التي اعطاها دون حساب. ومع انه لم يكن حزبيا بالمعنى الضيق للكلمة، الا انه انخرط كمعظم ابناء جيله وبيئته بالعمل اليساري، الديمقراطي والعلماني، وقد روى لي طرفة عن “محطة منظمة العمل الشيوعي لصاحبها محسن ابراهيم” حين اصطحبه ابن بلدته طلال سلمان في زيارة لمحسن في منفاه الطوعي في باريس التي لجأ اليها بعد ان تميزت المنظمة بموقف نقدي خاص من الحرب الاهلية بعد الاجتياح الاسرائيلي وحرب الجبل رافعة شعار “لا بندقية مشروعة الا في وجه الاحتلال الاسرائيلي”، مما اغضب الدكتاتور الراحل حافظ اسد. وقد قدم طلال سلمان رفيقه لمحسن ممازحا بان هذا الشاب قد نجح بعدم التوقف في المحطة الابراهيمية.
في حوارتنا الهاتفية الاخيرة والمكثفة لاحظت حجم الالم والحزن الذي يعتصر قلب المناضل الطيب، خصوصا انه بحكم تواصله الواسع مع قاعدة الاساتذة، بات يدرك بالتفصيل حجم المعاناة التي يمر بها الاساتذة المتقاعدون و الاساتذة الذين ما زالوا في الخدمة، نتيجة  انهيار مداخيلهم( حقوقهم) وسلب مدخراتهم وانهيار صندوق التعاضد درة التاج في الجامعة اللبنانية، حتى ان بعضهم توفي بسبب نقص الامكانات وضيق الحال وتحول الاستشفاء المميز الى خدمة للأثرياء والقادرين.
حين بدأ بعض زملائنا من مؤسسي و رواد الفروع الشمالية يتقاعدون، عملنا على ترتيب لقاء اسبوعي بينهم في مقهى البان دور في طرابلس.
وكانت حوارات الاساتذة ونقاشاتهم تتنوع حسب الحضور والظروف. من الاكاديمي الى الثقافي الى الاقتصادي الى الاجتماعي الى البيئي الى السياسي . اما في السنوات الاخيرة، فقد سيطر القلق على المصير الشخصي والعائلي وعلى الجامعة والوطن عموما، بعد ان أدخل البلد في نفق الانهيار السيادي والسياسي والاقتصادي. و بمناسبة رحيل د.شبيب نستذكر  من رحل منهم ونذكر بعضهم، كسيف الدين ضناوي الرئيس الاول لرابطة قدامى اساتذة الجامعة اللبنانية و جبور الدويهي ومصباح الصمد وطارق دسوقي و حاج نقولا فارس وعلي مسقاوي. جميعهم حملوا قضايا مهمة، كل على طريقته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى