مقالات

“في استلهام لحظتي ١٤ آذار و١٧ تشرين لمعالجة سيندروم التكيف والانتظار”

 

كتب الدكتور طلال خواجة اليوم في جريدة النهار مقالة تحت عنوان:”في استلهام لحظتي ١٤ آذار و١٧ تشرين لمعالجة سيندروم التكيف والانتظار”

جاء فيها :في لقاء تلفزيوني مطول سأل سامي كليب الرئيس ميقاتي عن خطة الحكومة لعلاج ازمة الودائع, فاجابه بأن الحكومة سترد الودائع الدولارية التي تعود لما قبل الاغلاق الاسود للمصارف ضمن خطة اعاد شرحها على طريقته، وهي لا تبتعد كثيرا عن شبكة الكلمات المتقاطعة.

لم يكن مستغربا ان تحتوي هذه الخطة على كم من الاوهام وكم من الغموض وكم من التناقض و الكثير من اللف والدوران.

ما هو مستغرب والاصح مستهجن هو ان يتجاهل الميقاتي عشرات الوف الودائع الدولارية التي حولت من الليرة الى الدولار بعد الاغلاق الاسود عقب انتفاضة ١٧ تشرين اول.

هكذا ودون عناء النطق بحرف ولو حرف جر, مسح عمليا الملياردير الطرابلسي ما تبقى من مليارات الدولارات التي ادخرتها بعض الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، بينهم متقاعدون واساتذة واداريون واصحاب مهن حرة وصغار كسبة، وجمعيات مدنية واللائحة تطول، ممن تمسكوا بعملتهم الوطنية حتى اخر نفس.

علما انهم اجبروا على مسح مليارات من هذه المدخرات عبر تعميم ١٥١ القاهر وبتواطؤ الثلاثي المتفرعن: السلطة المتشظية وجماعة المركزي واصحاب المصارف.

وما اثار الاستغراب ايضا هو صمت اعلامي بحجم سامي كليب صاحب الثقافة العالية والخبرة الطويلة عن تجاهل فئة كبيرة من المودعين في وصلة رئيس الحكومة عن خطة اعادة الودائع، خصوصا ان المحاور المخضرم اثار معظم المواضيع، ولم تخلو اسئلته من الجرأة والصراحة والكمائن، وان على طريقته الهادئة.

وفي الواقع فان هذا الصمت تجاه المظلمة المضاعفة لهذه الفئة من المودعين اصبح تراندا، ويكاد يتحول لسيندروم حتى عند المودعين انفسهم، منذ ان نجح رياض سلامة ومن خلفه السلطة بمنوعاتها في شق المودعين بالدولار الى شقين باصدار التعميم ١٥٨ في حزيران ٢٠٢١، ضاربا بعرض الحائط الدستور والقانون والملكية الخاصة. فقد نص التعميم علنا بحصر الافادة من الودائع بالعملة الاجنبية التي وضعت في البنوك قبل ٣١/١٠/٢٠١٩ يوم انهاء الاغلاق الاسود.

وقد اعطى سلامة بحبوحة لاصحاب المصارف، فاضاف الى الفئة المحرومة شريحة اخرى كانت تملك ودائع دولارية قبل هذا التاريخ ونقلت بعض حساباتها لاحقا لاقرباء ضمن نفس البنك او لبنوك اخرى في القطاع المصرفي. علما ان بعض هؤلاء اجبر على اغلاق حسابه ونقل وديعته الدولارية تحت ضغط من المصرف احيانا. وفي الواقع فإن هذه الشريحة منسية بالكامل ولا تعرف اين تقع منزلتها في الاختراع الشيطاني المجرم لفكرة ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة. ونشدد على كلمة مجرم لان الفرز هو مخالف للدستور، فضلا عن انه يحمل المودع الذي حول وديعته الى الدولار بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ تبعة ألاعيب المصارف والمصرف المركزي.

لقد حشدت السلطات بما فيها السلطة النقدية حشدا من الاقتصاديين والاختصاصيين والاعلاميين لتبرير عملية الفرز بين المودعين، علما ان الفرز الوحيد العادل والموضوعي يجب ان يكون بين ودائع طبيعية وودائع مشكوك فيها على قاعدة من اين لك هذا، بما فيها الودائع المهربة قانونيا!

وقد ساهمت هذه الحملة، في مناخ التحول الى اقتصاد الكاش والدولرة ، مدعوما بفوضى صيرفة من جهة والاقتصاد الاسود من جهة اخرى، في زيادة منسوب الارتباك والاحباط، حتى بتنا نعاني من سيندروم التكيف.

لن نكرر ما قلناه في مقالات سابقة، ومع ذلك فاننا نشدد على النقاط التالية:

١- ان التحويل الى الدولار بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ فد تم بمعدل ٢٠٠٠ ل.ل للدولار، كما ان الودائع المحولة جمدت لمدد طويلة عموما ودون فائدة.

٢- يقول البعض من جماعة غرف الاقتصاد والسياسة، بان التحويل قد تم دون ملاءة دولارية وبالتالي لا يجب على ان يعامل كودائع دولارية. وهذا يعني ان البنوك المحولة خدعت المودع بتواطؤ من جماعة المركزي، ما يتطلب عقابها وليس عقاب المودع، علما ان هذه البنوك حولت للخارج في نفس الوقت اموالا طائلة لاصحابها وللسياسيين وغيرهم من الاقوياء والفاسدين.

٣- ان الخلط بين تجارة الشيكات والودائع المحولة للدولار بعد الانتفاضة هو خلط مقصود لضرب صدقية هذه الودائع. علما انه يمكن تحديد هذه الشيكات وفصلها بسهولة. وفي الغالب فان هذه التجارة المافيوزية تمت بالتعاون مع اصحاب البنوك والمافيات المحمية بفائض القوة، ولا نستبعد ان بعضها سيل او حول للخارج على حساب الودائع الطبيعية، فكفى تزويرا. اما شيكات القروض الدولارية، فلتتحمل مسؤوليتها السلطات التي سمحت بها، خصوصا انها تساهم الان في تأجيج الصراع الملتبس وربما المرعي، الدائر بين القضاء والمصارف والذي يؤذي القضاء والقطاع المصرفي والمودعين.

وبالمناسبة فانه لم يعد السكوت عن التلاعب بمنصة صيرفة جائزا، خصوصا بعد ان اصبحت تداعياتها على فواتير الاتصالات والكهرباء الموعودة وانعكاساتها في مجالات حياتية اخرى كبيرة.

لقد حذرنا في المرة السابقة التي رفعت فيها صيرفة من ٣١٢٠٠ ل.ل الى ٣٨٠٠٠ للدولار الى خطورة هذا الموضوع العشوائي على الاوضاع النقدية والاقتصادية والاجتماعية، علما ان مفعوله في ابطاء تصاعد الدولار لم يصمد طويلا، وسرعان ان دوبل سعر الدولار في مدة قصيرة، كنا ان معظم البنوك اوقفت تطبيق صيرفة لسحوبات الدولار على ١٥١/١٦١ وتحولت لتجارة شنطة الكاش، ما الغى مفعول رفع الدولار في البنك من ٨٠٠٠ الى ١٥٠٠٠.

و ها هي القصة تعاد من جديد برفع صيرفة الى ٧٠ الف و٧٥٠٠٠ الف تباعا وبكلفة كبيرة على الودائع من جهة وعلى كلفة المعيشة من جهة اخرى، مع نتائج هزيلة في شراء الوقت وابطاء الانهيار، اذ سرعان ما استأنف الأخضر مسيرته صعودا.

ومع ان القلق من انعكاس صيرفة على فاتورة الكهرباء ارتفع منسوبه، خصوصا مع رسم التأهيل وابتداع سعر صيرفة +٢٠٪؜ في احتساب الفواتير، الا انه للاسف لم يتحول لمواجهة فعلية، حيث تغلب عامل التكيف، مصحوبا بوهم التخلص مستقبلا من فاتورة المولدات. والواقع فان توحيد فواتير ت٢ وكانون ١ على الصيرفة السابقة هو تسعير لفواتير العتمة، اما فواتير الضوء البسيط لكانون ٢ وشباط صعودا، فستكون كارثية.

كم كان مثيرا للشفقة ان نرى رئيس لجنة الاشغال العامة يبرر هذه الفواتير،، بما فيها رسم التأهيل رغم بعض الانتقادات الخجولة. علما انه لم يفت سعادته بان يشيد بالتقدم السلحفاتي في موضوع الكهرباء، في الوقت الذي نرى فيه ان المواطنين مدعوون عمليا للتكيف ولدفع فاتورتين كبيرتين لسنين طويلة، فضلا عن فاتورة غير مباشرة من دولارات الودائع في غياب الشفافية، وفي غياب رؤية اصلاحية للكهرباء.

والحقيقة الفاقعة هي أن شريحة واسعة من المواطنين، بينها بالتأكيد الفئات الفقيرة والمعوزة والبائسة، لن تكون قادرة على دفع حتى فاتورة واحدة وربما تنزع اشتراكاتها، بينما فئات اخرى واسعة ايضا، بعضها قادر ماديا ومحمي سياسيا لن تطالها جباية مستدامة.

لن نكرر سردية الانهيار التي طالت تداعياته

جميع القطاعات، خصوصا القطاعات التي لطالما شكلت ميزات تفضيلية للبلد الصغير، كالقطاع المصرفي والقطاع الاستشفائي، وقطاع التربية والتعليم.

وبغض النظر عما اذا كان هذا الانهيار هو نتيجة لفائض القوة الفئوية التي وضعت البلد رهينة لمصلحة احتلال مقنع في منطقة حبلى بالتطورات وفي مرحلة سريعة التحولات، ام اذا كان مسارا مرعيا لتغيير طبيعة البلد وتفكيك سيادته وانتمائه العربي، فإن مسؤولية المعارضات المتنوعة في المواجهة يجب ان ترتقي لحجم التحديات، والتي لا تتلخص برصد اجتماعات باريس و واشنطن وبكين، ولا بجمع اصوات النواب في مبارزة متعثرة على اهمية رئاسة الجمهورية. خصوصا اننا نشهد تزايدا في الشروخ الوطنية يعبر عنها بالنزوع نحو الفدرلة والانعزال.

وربما تشكل ذكرى انتفاضة ١٤ اذار المجيدة والتي جذبت اكثر من ربع الشعب اللبناني الى ساحات الحرية، طالبة الحقيقة في زلزال اغتيال الشهيد الحريري ورفاقه ومؤدية لاخراج قوات النظام السوري التي جثمت على صدر اللبنانيين طويلا، مناسبة لتذكير المعارضات السيادية والميني سيادية والتغييرية، كم يختزن الشعب اللبناني من طاقات اذا ما احسن استثمارها في مواجهة الهيمنة والتسلط والاحتلال، مقنعا كان او مباشرا.

وليس سرا ان قيادات ١٤ اذار قد خذلت المنتفضين واللبنانيين عموما، حين جنحت نحو التسويات السلطوية التي دفعنا اثمانها غاليا في السيادة وفي السياسة كما في الاقتصاد والاجتماع. لذا لم يكن غريبا ان يرفع منتفضو ١٧ تشرين شعارا ملتبسا كلن يعني كلن، وهو الالتباس الذي استغله حزب الله وجماعة الممانعة في اختراق وضرب المنتفضين العابرين للمناطق والطوائف والتيارات والذين جذبوا مئات الالوف اللبنانيين، خصوصا الشباب من اجل الحياة الكريمة والحوكمة السليمة والتغيير الاجتماعي.

هكذا تبدو الحاجة ماسة الى تحديد الاخطار الكيانية والحياتية والمعيشية التي يواجهها اللبنانيون، والعمل على توحيد الموقف السياسي من هذه الاخطار، بما يريهم الضوء في آخر النفق. كما علينا ان ندرك انه يجب العمل الدؤوب، الشعبي وليس النخبوي فقط، على مواجهة تداعيات هذه الاخطار على القطاعات المتداعية وعلى الحياة التفصيلية اليومية للبنانيين المتألمين، بما يؤدي الى وقف او ابطاء التدهور المعيشي والى انعاش الامل وتحفيز الذاكرة بالقوة الكامنة لهم في المواجهة السلمية التوحيدية لفائض القوة الفئوية ومشاريعها التدميرية، علنا نوقف اوهام الخلاص عن طريق الفدرلة والتقسيم، كما نبطئ عداد الهجرة المتصاعدة.

ذلك ان سلاح الوحدة المستندة على الدستور والعيش الواحد هو اقوى من كل الاسلحة، والمهم حسن الاستعمال والتمتع بالنفس الطويل.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى