مقالات

“بين شراء الوقت وبيع الاوهام وانتظار الفرج”

 

كتب الدكتور طلال خواجة اليوم في جريدة النهار مقالة تحت عنوان:
“بين شراء الوقت وبيع الاوهام وانتظار الفرج” جاء فيها:

في رحلة الذهاب الى الجحيم اللبناني برز دور الرئيس السابق ميشال عون.
فهو كان قد اعلن في مؤتمر صحافي صاخب وصول المركبة الفضائية اللبنانية الى غلاف كوكب الجحيم. جاء ذلك قبيل تكليف الرئيس الحريري تشكيل حكومة المهمة التي ابتدعها الرئيس الفرنسي ماكرون في زيارتين متتاليتين للبنان.
الزيارة الاولى اعقبت جريمة العصر المروعة والتي ادت لتدمير مرفأ بيروت واجزاء واسعة من العاصمة، و الى سقوط مئات الضحايا والاف الجرحى في مشهد ابوكاليبتي مروع فاقت آثاره ودلالاته كل ما شهدته بلاد الارز في رحلة القهر والالام المستمرة باشكال مختلفة منذ اكثر من نصف قرن. علما ان هذا المرفأ الذي تصاعد دوره في القرنين الماضيين شكل رافعة اساسية لبيروت كعاصمة لدولة لبنان الكبير وساهم في ازدهار البلد وتحوله جسرا ثقافيا واقتصاديا وحضاريا لعقود، وللمفارقة فقد ساهم ايضا في تسهيل الوجود الكولونيالي الفرنسي والبريطاني في لبنان والمنطقة في مرحلة الحربين العالميين وتداعياتهما على لبنان وسوريا والمشرق والمنطقة العربية عموما.
الزيارة الثانية اتت بمناسبة مئوية لبنان الكبير والتي ترافقت مع وصول منسوب الازمات لمستوى الاخطار الكيانية الى جانب اخطارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الغير مسبوقة، خصوصا مع الهيمنة الشاملة لحزب الله على البلد بواسطة فائض القوة من جهة وبواسطة السيطرة غير المباشرة عبر حلفائه على المواقع الدستورية الرئيسية في البلد من جهة أخرى. وهذه الهيمنة عكست في الواقع هيمنة واحتلال ايرانيين وان بالواسطة، مما حول البلد واستحقاقاته المختلفة رهينة في الصراع الاقليمي والدولي في مرحلة التحولات الكبرى وصعود الامبراطوريات وعودة الحروب الى اوروبا نفسها. علما ان منطقتنا ما زالت تدفع اغلى الاثمان في سياق هذه التحولات، خصوصا انها تقع بين افكاك مثلث التماسيح اسرائيل ايران وتركيا.
في ضوء الرؤية الماكرونية للمصالح الفرنسية في لبنان والمنطقة والمتزامنة مع قب باط اميركي واستنكاف سعودي، لم يكن مستغربا ان تؤدي مسايرة ماكرون لحزب الله والرئيس عون و قوى السلطة عموما، رغم التقريع اللفظي العنيف، الى المساهمة في اضعاف وحتى فرملة الانطلاقة الجماهيرية التي اندفعت ردا على جريمة المرفأ. علما ان الانطلاقة المتجددة كانت قد شهدت تحولا سياسيا بارزا، فطاولت شعاراتها حزب الله وامينه العام، بعد ان جرى تحييده خلال المراحل الاولى للانتفاضة، رغم تسلطه واتهاماته وبطشه مع شريكه بالمنتفضين السلميين.
وللمفارقة فقد ساهمت الانتهازية الفرنسية في تفشيل تشكيل حكومة المهمة حلال شهور المواجهة الطويلة بين الرئيس الحريري المكلف (بعد تنحي مصطفى اديب) وبين عون/ باسيل ومن الخلف شريكهما القوي في ذمية مار مخايل، ضمن مشهدية استنكاف وادارة ظهر ملتبسة من قوى المعارضة المتنوعة، وفي مقدمها قوى المعارضة المسيحية.
لم يكن الرئيس عون الراكب الوحيد داخل قمرة قيادة السفينة اللبنانية المتجهة الى جهنم، ولم يكن حتى الراكب الرئيسي، رغم احتلاله لمقعد القيادة، يحيط به مجموعة من الطائفيين والمنتفعين ومهووسي السلطة، يتقدمهم الصهر المدلل، والذي ابتدع له المنتفضون ترنيمة خاصة، محملين اياه مسؤولية اساسية في دفع البلد نحو حافة الانهيار الشامل، وهذا ما استفز العم الرئيس الذي طالب شعبه المنتفض بالصمت على القهر والاذلال او الهجرة وكاننا في مشهد من مسرحية رحبانية درامية.
لا يختصر السيد باسيل المشهدية الانهيارية، رغم انه نجح في ان يتحول الشخصية رقم واحد في الكراهية عند اللبنانيين، على ما ذكر احد الاعلاميين في احدى المحطات التلفزيونية في سياق توصيفاته للشخصيات السياسية الرئيسية في البلد ليلة رأس السنة.
فمشهدية الانهيار قد صنعتها مجموعة من أنصاف الالهة، تتصرف بطريقة ابشع من الطيور الكاسرة التي تختار فرائسها وتذهب بها لعرينها الصخري في الاعالي لتهضمها وتجترها، على ما يرمز تيم مكنتوش في كتابه العرب حين يصف تجار المشرق القديم بالمقارنة مع تجار البخور والاحجار الكريمة والصمغ المتنقلون على الجمال في الجزيرة العربية، من جنوبها الى شمالها الى شرقها وغربها فبل ان يستبدلوها مؤخرا بالغاز والنفط.
اما كواسرنا فهي تلتهم فرائسها في العلن، غير عابئة بوصف ماكنتوش وتقريع ماكرون ومناجاة جميع الدول, كبيرها وصغيرها بضرورة انقاذ البلد الجميل من جحيم الانهيار.
في مشهدية الانهيار تبرز طوابير الذل المتنقلة من محطات البنزين والغاز الى الافران الى بوابات البنوك ومكنات ATM، فضلا عن تدهور وانهيار الخدمات والحقوق الاساسية للمواطن، من كهرباء ومياه وتعليم واستشفاء ودواء وغذاء وادارت ومصالح عامة وقضاء والقائمة تطول.
ولكل من قوى السلطة وقبائلها المتشظية سرديتها الخاصة لاسباب الانهيار، وان كانت تجتر الفكرة وضدها في نفس الوقت، فالكل يهاجم الاقتصاد الريعي وسياسة تثبيت الليرة ويتغرغر بالاقتصاد المنتج. ومع ذلك فالكل ينتظر المساعدات الخارجية وتحويلات اللبنانيين في الخارج، و الكل تواطأ في موضوع الدعم الكاذب الذي هدر المليارات واستفاد منه الميسورون، والتجار الفجار ومافيات السلطة الفاسدة، كما دعم اقتصاد النظام السوري والاقتصاد الاسود الموازي المحمي والمتفلت.
والكل يتكلم عن الكابيتال كونترول وخطط الانعاش والتعافي وصندوق النقد الدولي ويقدس الودائع. ومع ذلك فالكل يشهد سحق هذه الودائع في البنوك بسيل التعاميم والهير كات المفجع واساليب بنكرجية رخيصة وصلت لحد السرقة المباشرة تحت مسميات مصاريف التشغيل، فضلا عن التلاعب والتذاكي بموضوع صيرفة وسرقة الرواتب كما حصل وما زال يحصل بين حدي صيرفة ٣١٢٠٠ و ٣٨٠٠٠، مما وضعنا ولاول مرة امام راتبين لاثنين من نفس الرتبة والراتب، حصلت حتى مع اخين ومع رجل وزوجته. فكيف نخضع لضرب قدسية ووحدة الرواتب ؟ وهل وصل الاحباط والتكيف لهذا الحد المفجع؟
والملفت ان معظم الاعلام يظهر النواحي الايجابية لقفزات صيرفة عن طريق ابراز ابطاء التضخم وتهدئة ارتفاع الدولار وتراجع بسيط في سعر المحروقات، دون الانتباه الى ان المستفيد الاكبر منها هي البنوك والصرافين على انواعهم واصحاب المال والتجار والمافيات المختلفة والاقتصاد الاسود اللبناني والسوري. فضلا عن اثاره السلبية على الرواتب والمودعين الذين يسحبون دولاراتهم على سعر صيرفة وعلى عموم الناس الذي يدفعون فواتير الاتصالات وسيدفعون فواتير الكهرباء المظلمة علي سعر صيرفة ايضا. علما ان بعض البنوك وضعت مؤخرا شرط الاستفادة من صيرفة ان تكون وديعة المستفيد اعلى من ٥٠ الف دولار ، مما يعني فعليا ان اصحاب الودائع الصغيرة يدفعوا فرق صيرفة لاصحاب الودائع الاعلى.
والواقع اننا لم نلحظ تخفيضات متناسبة في الاسعار نظرا لضعف وتلكؤ اجهزة المراقبة وتلهي الوزير المنفوخ بالاستعراضات الاعلامية.
وفي غياب اي اختراق في الحلول السياسية و استطرادا الاقتصادية والمالية وفي ظل انهيار السيادة، سرعان ما ستلتهم الاثار السلبية الإيجابيات المؤقته والقليلة للخطوة الاخيرة و يبدأ العد صعودا من جديد وهو ما بدأنا نشهده اصلا.
من غير المستغرب حالة اللامبالاة والتخبط عند قوى السلطة والتي يشتري لها الوقت الحاكم سلامة من جيوب المواطنين، وهي بدورها تبيعهم الاوهام، فبعضها تابع ومعظمها فاسد وجميعها فاقد الاحساس، وجلها مستتبع لفائض القوة.
المستغرب والمستهجن ان تتابع منوعات المعارضة السياسية، بما فيها المعارضة التغييرية نهج الانكفاء عن لعب دور جدي وفعال في الدفاع عن مصالح الناس المباشرة ولقمة عيشها والتي تتعرض للخداع، سواء في الدولار الجمركي والدولار البنكي وبدعة الودائع المؤهلة والغير مؤهلة والتي تصيب فئة مودعي ادخار القرش الابيض لليوم الاسود، سواء في موضوع الكهرباء، سواء في موضوع الرواتب، حيث اوهموا الناس بثلاثة اضعاف الراتب، والوقع هو ضعفين فقط اذا اوقفت المساعدة الاجتماعية، علما انها زيادة بمفعول خفيف، خصوصا بعد رفع سعر صيرفة ورفع الضرائب الغير مباشرة مع الدولار الجمركي وتهشيم التعميم ١٦١ لصالح تحويل الناس لتجار شنطة العملة الورقية.
وبشيء من الرمزية وبعض المبالغة نقول:
الجميع يعمل عند الحاكم سلامة والحاكم يعمل مع وعند قوى السلطة وقوى السلطة تعمل عند حزب الله والذي يعمل بدوره عند ايران والبقية تنتظر الفرج.
الايجابي اننا نشهر حراكا جنينيا للنقابات المهنية والعمالية وروابط التعليم، على امل ان يفتح هذا الحراك ثغرة في جدار الاحباط والخضوع، خصوصا ان لها صفة تمثيلية واسعة. هناك ضرورة للاستنفار وتوسيع التنسيق بين الجميع باتجاه مواجهة متدرجة ومتصاعدة تبدأ بالوقف الفوري لسرقة الراتب وضرب وحدته، وتعمل من اجل وقف او ابطاء انهيار القطاعات المهددة، خصوصا قطاعات التعليم التي تتدهور بصورة دراماتيكية، ومن الطبيعي ان تضع النقابات وزنها في موضوع انتخاب الرئيس على اسس ديمقراطية بعيدة عن التحاصص والتوافق الكاذب.
واذا كان التصدي للوضع المعيشي والاجتماعي والصحي ومواجهة سرقة الرواتب والاجور والادخارات والودائع يشكل اولوية، الا انه يجب ان يترافق مع ضرورة الحفاظ على القطاعات المهددة وابتداع وسائل التواصل مع جميع المتضررين في هذه القطاعات لحمايتها من السقوط المدوي، مما قد يحفز قوى المجتمع المدني الواسع عموما، و ربما يشكل عامل ضغط على قوى المعارضة المتنوعة، خصوصا القوى التغييرية التي باتت تغرق في بحر الملفات والمشاكسات والمبادرات الوهمية وتهمل اوجاع الجماهير التي حملتها الى البرلمان.
لا نريد التقليل من اهمية مواجهة الاستحقاقات والاخطار الكيانية التي تتهدد البلد الصغير، ولطالما سال حبر كثير من اجلها.
ما ندعو له هو العمل على ردم الهوة التي تتوسع بين المواجهات السياسية والسيادية والدستورية وبين المواجهات القطاعية والمعيشية والاجتماعية، حيث يزداد الاحباط واليأس والتسليم بالواقع الانهياري ، كما التسليم بالترقيعات وشراء الوقت التي تقوم بها سلطة متضامنة في الشر والقهر، رغم التشاتم والتناتش والنكايات السياسية وشخصانية زعماء القبائل. علما ان مواجهات الاخطار الكبيرة لا تستقيم دون حركة شعبية عابرة للمناطق والطوائف تستحضر منطلقات وافكار واهداف و روح انتفاضتي ١٤ آذار و١٧ تشرين وما بينهما من حراكات.
هل يؤدي التنسيق النقابي الى حراك مدني يرمي بعض الاحجار في المياه الراكدة ويساهم بتغيير قواعد الاشتباك السياسي القاصر في البلد؟
نحن بالانتظار على كل الضفاف وليس على ضفة واحدة لاننا ما زلنا مصابون بمرض الامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى