مقالات

د. سابا زريق: مورفين التسويات(النهار)

مقال للدكتور سابا قيصر زريق نشر اليوم في في جريدة النهار تحت عنوان:”مورفين التسويات”

بعد أن ولّد الصبر فيّ يأساً كبيراً، جعلني أشك بحسن قراءتي لما يجري في بلدي الحزين. وعلى الرغم من أن عدوى الاكتئاب انتشرت على مدى الوطن لأسباب بديهية، على “نغمات” التسويات التي أضحت عادة، لا بل ثقافة، على لسان من على أياديهم احترق البلد، لجأت إلى معجمٍ لبناني، غير مكتوب، عمره عقوداً عديدة، أفتش فيه عن معنىً لكلمة “التسوية”. وأكّدت هذه الفضولية ما كنت أخشاه، إذ ورد فيه مرادفان لهذه الكلمة العجيبة هما، أولاً: المحاصصة وثانياً: التوافق، بمعنى الإجماع؛ أي ما ترجمته العملية “البازار”. إن المسؤولين الذين لم يتعبوا في إطلاق دعواتهم المزيفة إلى الإلتزام بالدستور، المفروض أن يكون وعاء الديمقراطية المحصن، لا يتوانون عن الإخلال بأحكامه بممارساتٍ أقلّ ما يقال فيها أنها مشينة ومعيبة.

إن التذرّع بوجوب التوافق على كل شيء تقريباً، كشرط أساسي للتوصل إلى تسوية لأزمةٍ مزمنة ما، لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب بوجوب الإلتقاء أو بفضيلة التقارب والتكاتف في سبيل الوطن. وما يعلنه ساستنا يجافي تمام الجفاء ما يضمرونه؛ إذ أنهم كالصيادين الذين أضحت براعتهم في اقتناص الظرف أسطورة، لم تعد مآربها تخفى على أحد. وهم اليوم ليسوا على عجلة لانتخاب رئيس للجمهورية، تهيئة لإجراء استشارات نيابية ملزمة، يكلّف بنتيجتها رئيس لتشكيل حكومة، يوليه النواب ثقتهم، ليقوم بعدئذ بتفعيل عمل السلطة التنفيذية، رأفة بالوطن والمواطنين. أما حكومة تصريف الأعمال الراهنة، وإن نشطت بضعة وزارات فيها إلى حدٍّ مقبول نسبياً بسبب الظروف، فإن وزاراتٍ أخرى فيها في موت سريري، ربما بانتظار “غودو”، مع علمهم بأن هذا الأخير لن يأتي وهو أسرّ لهم من عالم الغيب أنه يعوّل على قيامة مواطنة ما مفقودة في نفوسهم.

إن التفسير الضيق لمفهوم “تصريف الأعمال” لم يعد يجدي، فمعظم أزماتنا يتّسم بطابع الضرورة. لذلك، ولما كانت الضرورات تبيح المحظورات، هذا إذا اعتبرنا مثلاً، في أسوأ الأحوال، أن تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين على كافة الصعد هو أمر محظور، وهذا الاعتبار ليس منطقياً بالطبع، فعلى حكومة تصريف الأعمال المبادرة فوراً إلى عقد جلسات مفتوحة للنظر والبتّ في ملفات عالقة منذ دهر، إذ قد يكون في ذلك إكسير لحياة أعداد كبيرة من المواطنين. على حكومة تصريف الأعمال الإمساك عن تجاهل هذه الضرورات وذلك تنفيذا لموجب، إن لم يكن دستورياً أو قانونياً بنظرها، فهو حتماً أخلاقي بامتياز بنظر الجميع؛ مما يحتّم عليها توسعة تفسيرها للحكم الدستوري. وعليها كذلك عدم الإرتهان لتسويات قد لا تأتي؛ فـ “المورفين” الذي ما فتئت تحقنه في عروق الشعب قد فقد مفعوله.

 

لم تعد كلمات المسؤولين المعسولة تفيد؛ ونواياهم غير الصادقة في إنقاذ البلد أضحت واضحة وضوح الشمس. إن من شأن استمرارهم في غيّهم الإمعان في تفتيت البلد وتشتيت المواطنين ونزع من فوق رؤوسهم مظلّة دولة كانت موجودة في يوم من الأيام، وإن وهمياً. وكل ذلك، بسبب عدم توفر توافق ما، على أمر ما، أو عدم اكتساب كل منهم لحصة أو لمنفعة كان يحلم بها؛ أي، وبتعبير ختامي، إذا ما فشل البازار في تقاسم الغنائم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى